من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه

الحمد لله الهادي إلى سبيل الرشاد، موفق من شاء من عباده إلى طريق السداد، أحمده سبحانه وأشكره، وشكره واجب على جميع العباد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك الناصح الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

 أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه محاسب على كثير عمله وقليله، ومراقب في جليل كلامه وحقيره، ويعلم أن على كل جارحة منه رقيبا وحسيبا، ولدى كل خطرة، أو نظرة، أو كلمة منه رقيب وعتيد. فاستعمل نفسه في طاعة مولاه، واجتنب ما عنه حذره ونهاه، وشغل نفسه بتفقد عيوبه وإصلاحها، وسعى في أسباب تزكيتها وفلاحها، فقد أفلح والله من زكاها. {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10].

وإنما خلاصها بالأعمال الصالحات، واجتناب المحرمات، وكبح جماحها عن الانطلاق في الشهوات، واقتحام المحرمات. ألا وإن سيد البشر عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم قد حرص غاية الحرص على أمته، ونصح تمام النصح لها، وبين لها طريق الرشاد لتسلكها، وحذرها من سبل الفساد لتجتنبها، ولقد أوتي r  جوامع الكلم التي تنير لنا الطريق، وتهدينا إلى سبيل السلامة والتوفيق، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: « من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعينه ».

فلقد جمعت هذه الجملة خير الدنيا والآخرة، فإن المرء إذا ترك ما لا يعينه من قول وفعل، واقتصر على ما يعينه من الأقوال والأفعال، فقد حسن إسلامه. وذلك أن الإسلام الكامل يقتضي فعل الواجبات، وترك المحرمات، كما قال r : « المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ».

وإذا حسن إسلام المرء، اقتضى ذلك ترك مالا يعينه من المحرمات أو المشتبهات، أو المكروهات، وفضول المباحات، التي لا يحتاج إليها، فإن هذا المسلم الكامل في إسلامه الذي بلغ درجة الإحسان، وهو أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه.

فإذا اتصف المرء بهذا الوصف العظيم استحضر عظمة خالقه وبارئه وإلهه فأوجب له ذلك الحياء من الله، واشتغل بما يعنيه، وابتعد عما لا يعنيه، وقد قال r : « الحياء شعبة من شعب الإيمان » .

وجاء تفسير الحياء عن النبي r  كما في المسند والترمذي من حديث عبد الله ابن مسعود t مرفوعا: « الاستحياء من الله: أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء».

وجاء عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. وهو كما قال - رحمه الله - فإن كثيرا من الناس لا يحسب لما يتكلم به حسابا، ولا يخطر له ببال، ولو تذكر أنه سيسأل عما يتكلم به لأوجب له ذلك الخوف والحذر، وقد خفي هذا على كثير من الناس، بل قد خفي على بعض أصحاب النبي r، كما خفي ذلك على معاذ ابن جبل t حتى سأل رسول الله فقال: يا رسول الله، أنؤاخذ بما نتكلم به؟ فقال e : « ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم » .

وفي سنن الترمذي عن أنس  t قال: « توفى رجل من أصحاب النبي r، فقال رجل: أبشر بالجنة. فقال رسول الله r : أو لا تدري، فلعله تكلم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا ينقصه ». وروى عن أبي هريرة t مرفوعًا: «أكثر الناس ذنوبًا أكثرهم كلامًا فيما لا يعنيه».

فاتق الله أيها المسلم، والزم المحافظة على لسانك، وابتعد عن التدخل فيما لا يعنيك، ليسلم لك دينك، ولتبقى لك مروءتك، ولتوفر عليك عرضك.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 16 - 18].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

أول الخطبة الثانية

 الحمد لله عالم الغيب والشهادة، أحمده سبحانه وأشكره على ما أولاه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 أما بعد: فاتقوا الله معشر المسلمين، والزموا الصمت إلا فيما لا بد منه، فما أكثر من ندم إذا نطق، وما أقل من يندم إذا سكت، وإن أطول الناس شقاء، وأعظمهم بلاء، من ابتلى بلسان مطلق، وفؤاد مطبق، لا يحسن إن تكلم، ولا يستطيع أن يسكت، ولقد جاء في صحيح ابن حبان، عن أبي ذر t أن النبي r  قال: « كان في صحف إبراهيم -عليه السلام- : وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظًا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه ».

 

 

 

الحمد لله الهادي إلى سبيل الرشاد، موفق من شاء من عباده إلى طريق السداد، أحمده سبحانه وأشكره، وشكره واجب على جميع العباد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك الناصح الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين." data-share-imageurl="">