من مناسك الحج

 

الحمد الله الذي رفع مقام بيته الحرام، وجعل حجه ركنا من أركان دين الإسلام، وتفضل على من حجّه فلم يرفث ولم يفسق بخروجه من جميع الآثام، أحمده سبحانه حمد من قال ربي الله ثم استقام، وأشكره على جزيل الإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الناصح الأمين، أفضل الأنام طرِّا، وأرفعهم قدرا، وأزكاهم طاعة وبرا، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الأطهار وصحابته المهاجرين والأنصار.

 أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله-تعالى-وأخلصوا له العمل، وحققوا إيمانكم بربكم بامتثال أوامره، والبعد عن زواجره، ولا تلتفتوا بقلوبكم ودعواتكم إلى غيره، فإنه سبحانه المعبود المقصود في طلب الحوائج وحده؛لأنه الذي بيده الضر والنفع، وله الخلق والأمر، وغيره لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، يقول U: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } [الإسراء: 56]. ويقول سبحانه: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106].  

حققوا إيمانكم بنبيه الكريم بامتثال أوامره، ومتابعته، والاهتداء بهديه بكل أدب وانشراح صدر، قدموا قوله على قول كل أحد من الناس، مهما كان فإنكم مسئولون عن اتباعه، وطاعته ولا تُسألون عن غيره يقول سبحانه :{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65].

فلست أيها المسلم بمسئول عن طائفة معينة، أو نحلة خاصة، أو مذهب مخصوص، أو طريقة من الطرق إلا ما وافق هدي النبي الكريم e .

يقول تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]؛ لأنه e ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، أما غيره فليس بمعصوم من الخطأ كما هو معلوم لدى كل أحد، وكما صرح به كل إمام من أئمة الهدى، أهل العلم والتقى، كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم من أهل العلم والورع رضي الله عنهم أجمعين.

عباد الله: إنكم في بيت الله الحرام أتيتم مستجيبين لنداء خليل الرحمن، ملبين دعوة ربكم لحج بيته العتيق، معظِّمين شعائر الله، ومن يعظِّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، فحققوا هذا الهدف السامي بالتوجه إلى ربكم وحده، بطلب المغفرة والرحمة، والهداية إلى صراطه المستقيم، والاستقامة على الإيمان، واشكروه أن سهل لكم الوصول إلى بيته الحرام، وأعانكم على أداء هذا الركن العظيم، وتذكروا عباد الله كيف نشأ الإسلام في هذه البقاع المقدسة غريبا، ثم انتشر في ربوع المعمورة، وكيف ثبت بفضل الله ورحمته، وسيطر بالحق على أكثر البقاع حينما جاهد أهله، جاهدوا أنفسهم، وجاهدوا أعداء الله، وطبقوا تعاليمه صغيرها وكبيرها على أنفسهم، وعلى كل أحد صغير وكبير وسيد ومسود، وأمير ومأمور، وغني وفقير.

ثم تأملوا الآن ما وصل إليه المسلمون في حالتهم الحاضرة، من ضعف وتشتت بسبب بُعدهم عن حقيقة دينهم، وعدم تطبيق تعاليمه ورغبة الكثيرين عنه، فلما أضاعوا أمر الله أضاعهم الله، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد.

أيها المسلمون: راجعوا دينكم، وارجعوا إلى ربكم، وتمسكوا بهدي نبيكم، يحصل لكم العز والتمكين، والنصر المبين: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد: 7].

عباد الله: إنكم ستذهبون في اليوم الثامن من هذا الشهر إلى منى، والسُّنة أن تصلوا صلاة الظهر فيها قصرًا في وقتها، وصلاة العصر قصرا في وقتها، وتصلوا المغرب في وقتها، وتصلوا العشاء قصرا في وقتها، ثم تبيتون فيها، وتصلون صلاة الفجر، وبعد طلوع الشمس تذهبون إلى عرفات، فإذا زالت الشمس سن لكم أن تصلوا الظهر والعصر قصرًا وجمعا في أول وقت الظهر كفعل نبيكم e، ثم تقفون بعرفات، وتكثرون الدّعاء والذّكر، والتوبة، والاستغفار، وصدق الالتجاء إلى الله بمغفرة الذنوب، والثبات على دينه، وتلحون في الدعاء، فإن الله يحب الملحين في الدعاء، وتكرِّرون الذكر الوارد عنه e في عرفة، فقد كان يكثر من قول: « لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير »، ثم بعد غروب الشمس تذهبون إلى مزدلفة، فإذا وصلتم إليها، فالسنة أن تصلوا المغرب والعشاء جمعا وتقصروا صلاة العشاء، إذ هذه سنة نبيكم e، ثم بعد ذلك تبيتون بها، ثم في أول وقت صلاة الفجر تصلونها، وتقفون تذكرون الله وتدعونه حتى تسفروا جدًا، ثم تنصرفون منها قبل طلوع الشمس، أما الضعفة من النساء والصبيان ونحوهم فقد رخص لهم بالانصراف بعد نصف الليل، ويتحقق ذلك بغروب القمر تلك الليلة، فإذا وصلتم إلى منى رميتم جمرة العقبة بسبع حصيات، ثم نحر الهدي من كان معه هدي، وحلقتم رؤوسكم أو قصرتم، والحلق أفضل، ثم تذهبون إلى البيت الحرام في ذلك اليوم إن تيسر، وإلا بعده، وتطوفون طواف الإفاضة، ويسعى من كل قارنًا أو مفردًا، ولم يكن سعى مع طواف القدوم، ومن كان متمتعًا فعليه سعى لحجه غير سعيه لعمرته، ثم ترجعون، إلى منى، وتبيتون بها ليالي أيام التشريق الثلاثة، وترمون الجمار كل يوم بعد الزوال، ومن شاء أن يتعجل في يومين، فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، ثم لم يبق عليكم من أعمال حجكم سوى طواف الوداع عند إرادة السفر، ويكون وداع البيت آخر شيء يعمله الحاج.

اللهم تقبل منا إنك السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 27، 28].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق تقاته، واعلموا أن الله أوجب على عباده المؤمنين عبادات لا يتم إسلام أحد إلا بها، ولا يكمل الإيمان إلا باستكمالها، فأوجب عليهم أعظم الواجبات، وهو الإقرار والاعتراف والعمل بشهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله، وهذا هو توحيده الذي خلق الخلق من أجله، وهي عبادته وحده لا شريك له، يقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

ثم أوجب العبادات بعد هذه، الصلاة التي هي صلة بين العبد وبين ربه، وهي عبادة بدنية محضة، وأوجب فريضة الزكاة التي هي قرينة الصلاة، وهي عبادة مالية محضة، وأوجب الحج التي هي عبادة بدنية ومالية، عبادة تشتمل على السفر والمشقة وفراق الأهل والولد والوطن، تشتمل على بذل المال والتضحية به، تشتمل على الصبر وتحمل المشاق وعلى الحلم والمصابرة، تشتمل على ترك المألوف من المأكل والمشرب، والملبس، وأوقات الراحة، كل ذلك مما يشق على النفوس، ولكن قوة الإيمان وإيثار محبة الله على رغبات النفس، والاستجابة لداعي الإيمان يُسَهِّل ذلك كله. من أجل هذا كان ثواب هذا الركن العظيم من أركان الإسلام. الجنة ثواب من حج فلم يرفث ولم يفسق أن يخرج من ذنوبة كيوم ولدته أمه، من ملك نفسه عن اللغو والرفث والسباب والفسوق، والتزم حسن الأدب، وكان مطعمه ومشربه وملبسه حلالا، وأدى هذه العبادة على وجهها تواضعا وطاعة لله ورغبة فيما عنده، فما أسعد من اتصف بهذا، وفاز بالقبول وغفران الذنوب.

 

 

 

المرفقالحجم
Microsoft Office document icon 12من مناسك الحج.doc78.5 كيلوبايت
 

الحمد الله الذي رفع مقام بيته الحرام، وجعل حجه ركنا من أركان دين الإسلام، وتفضل على من حجّه فلم يرفث ولم يفسق بخروجه من جميع الآثام، أحمده سبحانه حمد من قال ربي الله ثم استقام، وأشكره على جزيل الإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الناصح الأمين، أفضل الأنام طرِّا، وأرفعهم قدرا، وأزكاهم طاعة وبرا، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الأطهار وصحابته المهاجرين والأنصار." data-share-imageurl="">