حقيقة التقوى

 

 

الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، وفق من شاء برحمته إلى سلوك سبيل جنة النعيم، وأضل من شاء بعدله، فسلك طريق الجحيم، أحمده سبحانه على إحسانه القديم، وأشكره على فضله العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، وقدوة المهتدين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين .

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وتمسكوا بكتاب ربكم تفلحوا، واعملوا بسنة نبيكم تهتدوا، واعلموا عباد الله أن الله سبحانه بعث نبيه رحمة للعالمين، وأعطاه جوامع الكلم، وخصه ببدائع الحكم، وأرسله ليتمم مكارم الأخلاق، وينهى عن سفاسفها، وإن من أهم حكمه r ووصاياه ما وصى به بعض أصحابه كما وصى به معاذًا وأبا ذر رضي الله عنهما، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ((اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن))([1]) ، إنها وصية عظيمة، جامعة لحقوق الله، وحقوق عباده، فإن حق الله على عباده أن يتقوه حق تقاته، ويعبدوه حق عبادته، والتقوى هي وصية الله لعباده الأولين والآخرين، كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] وقد ذكر الله التقوى في كتابه في مواطن كثيرة، وكرر ذلك للاهتمام بها، وهي في القرآن الكريم أكثر من أن تحصر، وكما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ }[الطلاق:2-3] فالتقوى سبب لتفريج الهموم، وكشف الغموم، وسعة الرزق، وتيسير الأمور {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا }[الطلاق:4]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [الأحزاب: 70، 71]. { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96] .

ولقد كانت التقوى وصيته r لأصحابه، بل ولأمته جميعاً، فكان u إذا بعث أميراً على سرية أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيراً، ولما خطب r في حجة الوداع يوم النحر أوصى الناس بتقوى الله، وبالسمع والطاعة لأئمتهم، ولما وعظ الناس موعظة بليغة قال له أصحابه: كأنها موعظة مودع، فأوصنا. قال: (( أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة )) ([2]) .

ولما قال أبو ذر: يا رسول الله أوصني. قال: (( أوصيك بتقوى الله، في سرك وعلانيتك )). وقال أبو ذر t: قرأ رسول الله r { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3] ثم قال r: «يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم » ([3]).

وقد كان السلف الصالح y يتواصون بالتقوى تأسياً بالقرآن العزيز، واقتداء بالنبي الكريم r .

فكان أبو بكر الصديق t يقول في خطبه: أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}[الأنبياء:90] .

وكتب عمر t إلى ابنه عبد الله، فقال: أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل، فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده، واجعل التقوى نصب عينيك وجلاء قلبك .

وقال علي t لرجل: أوصيك بتقوى الله عز وجل الذي لا بد لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة .

وكتب عمر بن عبد العزيز t لرجل: أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين .

عباد الله: إن حقيقة التقوى وأصلها في اللغة أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية له تقيه منه، فإذا خاف المرء من شيء جعل بينه وبين ما يخشاه وقاية له تبعده عنه، كما يتقي حرارة الشمس بالظل، والمطر بالكن، والعدو بالسلاح، وأما كيفية اتقاء العبد عذاب ربه فهو امتثال أمره، واجتناب نهيه، وأن يجعل بينه وبين ما يخافه ويحذره من غضب الله وسخطه وعقابه وقاية له تقيه من ذلك، وهذه الوقاية هي فعل الطاعات، واجتناب المنهيات، ومراقبة الله في السر والعلانية، خوفًا من الوقوع  فيما يسخط الله سبحانه، فيعاجله بالعقوبة .

فإذا استشعر العبد خوفه من الله، اتقى ربه، وعمل بطاعته، وابتعد عن معصيته، ولذلك تنوعت عبارات السلف رحمهم الله في تفسير التقوى .

فقال عبد الله بن مسعود t في تفسير قوله تعالى:{ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } قال t: (( أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر )) . وشكره سبحانه يدخل فيه جميع الطاعات ؛ لأن العمل الصالح شكر لله على نعمه، كما قال سبحانه:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}[سبأ:13] أي: اعملوا صالحًا من أجل أن تقوموا بشكر الله، ومعنى ((يذكر فلا ينسى)) ذكر العبد لربه بلسانه وبقلبه، وفي حركاته وسكناته، وفي أمره ونهيه، فيعمل بأمر الله ويجتنب نهيه .

وكتب ابن السَّماك رحمه الله إلى أخ له: أما بعد: أوصيك بتقوى الله، الذي هو نجيُّك في سريرتك، ورقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حال، في ليلك ونهارك، وخف من الله بقدر قربه منك، وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم من الله حذرك، وليكثر منه وجلك، فاتقوا الله عباد الله { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }[البقرة:281] .

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله البر الرحيم، ذي الفضل العميم، والإحسان القديم، أحمده سبحانه على نعمائه، وأشكره على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد القهار، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار . اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه البررة الأخيار .

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وحققوا التقوى التي أمركم الله بها .

واعلموا أن التقوى لا تكمل إلا بمراقبة النفس عن التقصير بأداء الواجبات وترك المحرمات والمنهيات والبعد عن ظلم العباد في دمائهم أو أعراضهم أو أموالهم كما قال r: « اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن » ([4]) . ولما كان العبد لا يخلو من بعض المخالفات مهما بلغ في العبادة والطاعة أمره r أن يتبع السيئة الحسنة تمحها، والحسنة يراد بها التوبة النصوح، وكثرة الاستغفار، وكثرة الحسنات والطاعات، فإن الحسنات يذهبن السيئات، كما قال سبحانه: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}[هود:114] والرسول الكريم r يقول: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها )) وكذلك مخالقة الناس بالخلق الحسن، واحتمال الأذى منهم، والصبر على ما يصدر من الجاهلين، كما قال سبحانه في وصف عباده المؤمنين: { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}[الفرقان: 63]. وحسن الخلق والتحمل من الناس من أفضل الأعمال كما قال r: «ما شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق » ([5]).

فإن الخلق الحسن من خصال التقوى، ولا تتم التقوى إلا به، فإن كثيراً من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحقوق الله دون حقوق عباده، فنص r على حقوق الناس بقوله لمعاذ t حينما أمره بالتقوى: « وخالق الناس بخلق حسن » وهذا أمر منه r بحسن معاشرة الناس، فإنه لما بعثه إلى اليمن معلمًا ومفقهًا وقاضيًا أمره بالخلق الحسن، فمن كان كذلك فإنه يحتاج إلى مخالقة الناس بخلق حسن أكثر ممن لا يخالط الناس ولا يحتاجون إليه .

وبعض الناس قد يقوم بحقوق الله، والعكوف على طاعته، ومحبته وخشيته، ولكن لا يراعي حقوق عباد الله أو يقصر فيها .

والجمع بين حقوق الله، وحقوق عباده، هو الكمال في التقوى، كما قال سبحانه:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134] .  

فاتقوا الله عباد الله، وحققوا تقواكم بمراقبة الله في السر والعلن، وكثرة التوبة والاستغفار، ومخالقة الناس بالخلق الحسن .

 

 

 

([1])    حديث أبي ذر رواه الترمذي في البر والصلة، رقم (1987) وما بعده . وحديث معاذ رواه أحمد في مسنده 5/153.

([2])    رواه الترمذي في كتاب العلم، رقم (2678)، وأبو داود في كتاب السنة، رقم (4607)  .

([3])    رواه أحمد في مسنده 5/181 .

([4])    تقدم تخريجه .

([5])    رواه الترمذي في كتاب البر والصلة رقم (2002) .

المرفقالحجم
Microsoft Office document icon 1حقيقة التقوى.doc73 كيلوبايت
 

 

الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، وفق من شاء برحمته إلى سلوك سبيل جنة النعيم، وأضل من شاء بعدله، فسلك طريق الجحيم، أحمده سبحانه على إحسانه القديم، وأشكره على فضله العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، وقدوة المهتدين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين ." data-share-imageurl="">