الخوف من الرياء

الحمد لله يعلم السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصـدور.  {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [يونس: 61] أحمده سبحانه على نعمه، وهو للحمد أهل، وأشكره على إحسانه، فهو المحسن المتفضل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم في سره وعلنه.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن تقواه هي الزاد الذي لا يفنى، وهي الموصلة إلى الله، وهي التي تقي مصارع السوء في الدنيا والآخرة.

عباد الله: إن إخلاص العمل من أوجب الواجبات، ومن أبر الطاعات، وهو أساس لكل عمل صالح إذا خلا العمل من الإخلاص، فلا قيمة له ولا ثواب له في الدنيا والآخرة، بل إن عدم الإخلاص داخل في مسمى الشرك، بل هو محبط للعمل، كما جاء في الحديث القدسي: « يقول الله U : من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه » ([1])، ولقد حذر منه سبحانه في محكم كتابه، مخاطبًا نبيه محمدًا r وهو خطاب لأمته { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 65، 66].

وإن عدم الإخلاص في العمل هو الشرك الذي حذر الله منه، وحذر منه رسول الله r ، وأخبر الله I أنه لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.

وإن الشرك على نوعين: شرك أكبر مخرج من الملة، وهو أن يصرف العبد لغير الله نوعًا من أنواع العبادة الواجبة لله وحده.

وهناك نوع آخر من الشرك، وهو الشرك الخفي، الذي هو أخطر ما يكون على الأمة، وهو الرياء، وإن كان قليله لا يخرج من الملة، ولكن ما أعظم خطره، وما أخوفه على الصالحين، كما قال r في الحديث الذي رواه الإمام أحمد:«ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال»؟ قالوا: بلى، قال: « الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي، فيزين صلاته؛ لما يرى من نظر رجل » ([2]) .

إن هذا هو الرياء الذي خافه r على أمته، بل خافه على الصالحين؛ لأنه r خاطب به أصحابه، وقد قال الله U : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف: 110].

فالعمل الصالح هو ما شرعه الله في كتابه، ورسوله r في سنته، ومن شرطه أن يكون خالصًا لوجه الله الكريم، لا رياء فيه، ولا سمعة.

ولما جاء رجل إلى عبادة  بن الصامت t فقال: أنبئني عما أسألك عنه، أرأيت رجلًا يصلي، يبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويصوم يبتغي وجه الله، ويحب أن يُحمد، ويتصدق يبتغي وجه الله، ويحب أن يُحمد، ويحج يبتغي وجه الله، ويحب أن يُحمد، فقال له عبادة t : « ليس له شيء، إن الله تعالى يقول: أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك، فهو له كله، لا حاجة لي فيه».

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة t عن النبي r يرويه عن ربه U أنه قال: « أنا خير الشركاء، فمن عمل عملًا أشرك فيه غيري، فأنا بريء منه، وهو للذي أشرك » ([3]).

وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد أن رسول الله r قال: « إن أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر ، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال: (( الرياء، يقول الله U لهم يوم القيامة إذا جزى الناس أعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءًا » ([4]).

وروى أبو يعلى عن ابن مسعود t قال: قال رسول الله r : (( من أحسن الصلاة حين يراه الناس، وأساءها حيث يخلو ، فتلك استهانة استهان بها ربه U » ([5).

عباد الله: إن الإخلاص سر عظيم، يقذفه الله في قلوب من اصطفى من عباده، ليقودهم به إلى جلائل الأعمال، ويحببهم في أحسن الفعال، يبعث فيهم الهمم العالية، والعزيمة الصادقة، والإرادة القوية، ويربي فيهم روحًا طيبة طاهرة، وضميرًا سليمًا حيًا، فهو الذي يبرئ العمل من العيوب، ويخلصه من المساوئ والذنوب، وهو عماد الأعمال، وسر النجاح، فما نهضت أمة من الأمم إلا على أساس الإخلاص، الذي يملك قلوبها، فيوحد صفوفها، ويجمع كلمتها، ويكسبها سدادًا في العمل وإحكامًا، ويورثها نصرًا على الأمم ونجاحًا.

أما عدم الإخلاص والاتصاف بالرياء فهو سبب لحرمان أصحابه من النجاح العملي في أمور دينهم ودنياهم، لأنه مبني على الخداع والمراوغة، ومخالف ظاهره لباطنه، فهو{كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39].

 نعم إن الله يحاسب عباده يوم القيامة على حسب نياتهم وإخلاصهم في أعمالهم، فهو سبحانه الذي يعلم السر وأخفى، فقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r : « إن أول الناس يقضي عليه يوم القيامة رجل استشهد في سبيل الله فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها،قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت، لأن يقال جري، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال هو عالم، وقرأت ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي به في النار. ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ فقال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فق قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه،  حتى ألقي في النار » الحديث رواه الإمام مسلم([6]).  

وجاء في بعض الروايات أن النبي r قال: « يا أبا هريرة هؤلاء الثلاثة أول من تسعر بهم النار يوم القيامة » .

عباد الله: إن الموفق هو الذي يعمل العمل خالصًا لوجه الله، لا لأجل الخلق ولا لأجل النفس، وإلا دخل عليه شيء من محبة الثناء أو تشوق إلى حظ من حظوظ الدنيا . إنه ينبغي للمؤمن أن يحرص على إخفاء أعماله الصالحة من النوافل؛ لأن الجزاء عند من يعلم السرائر لا إله إلا هو لكن إذا ترجحت مصلحة إظهار العمل على إخفائه لغرض صحيح، كأن يحصل الاقتداء به في الصدقات أو الزكوات، ويبادر الناس إلى التأسي والاقتداء به، فقد قال الله U : { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271].

وعن أنس t عن رسول الله r قال: « من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، فارقها والله عنه راض » رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين([7]).

قال بعض السلف: لا يزال العبد بخير ما علم ما الذي يفسد عمله عليه فلا غنى للعبد عن معرفة ما أمرنا باتقائه من الرياء وغيره، لا سيما وقد وصف الرياء بالخفا، ففي الحديث أنه أخفى من دبيب النمل([8])، فما خفي لا يعرف إلا بشدة التفقد ونفاذ البصيرة بمعرفته حين يعرض، فبالخوف والحذر يتفقد العبد الرياء، وبمعرفته ببصيرته حين يعرض له، فيبتعد العبد عن التصنع للمخلوق، أو اكتساب محمدة عن الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني، سوى التقرب إلى الله، وليتذكر وقوفه بين يدي الله يوم القيامة { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [الطارق: 9، 10] وليحذر المؤمن أن يتصف بصفة من صفات أهل النفاق، الذين ذكرهم الله U بقوله: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء: 142].

أعاذنا الله وإياكم من الرياء والنفاق، ومن سيء الأعمال والأخلاق، ونفعني وإياكم بالذكر الحكيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، الذي هو أعظم المنن، وأمرنا بإخلاص العمل له في السر والعلن، أحمده سبحانه على إحسانه العام، وأشكره على جزيل الإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه،واسلكوا سبيل عباده الصالحين، الذين يعبدونه على بصيرة، وعلم، وصراط مستقيم، وإخلاص لله في أعمالهم وأقوالهم، واحذروا عباد الله من الرياء والسمعة فيما تقومون به من صالح الأعمال، فإن النبي r قد حذر من ذلك غاية التحذير، كما جاء في حديث معاذ بن جبل t قال: قال رسول الله r : (( من سمع سمّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به )) ([9]) قال الإمام الخطابي رحمه الله : أي من عمل عملًا على غير إخلاص إنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه، فيبدوا عليه ما كان يبطنه ويسره من ذلك، وقد قال بعض المفسرين على قوله تعالى:{ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } [الزمر: 47] كانوا قد عملوا أعمالًا كانوا يرونها في الدنيا حسنات، بدت لهم يوم القيامة سيئات.

وقال الإمام سفيان الثوري -رحمه الله- على هذه الآية: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم.

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t : للمرائي علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثنى عليه، وينقص إذا ذم به.

وقال بعض السلف: ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص ؛ لأنه ليس لها فيه نصيب.

عباد الله: إن الرياء أمره عظيم، وخطره جسيم، وإن من مظاهره أن بعض الناس يتحدث عن أعماله الصالحة عند الآخرين، من صلاة وصدقة وصيام، وربما ذكر كَمْ حجة حجها، وكم عمرة اعتمرها، وهو لم يسأل عن ذلك، وربما ذكر مساعدته للناس بجاهه أو ماله، يريد بذلك المنزلة عند الناس، وأنه من المحسنين، وهذا غلط فاحش عظيم، وضرر عليه كبير،فما دام يعمل لله فما الداعي للتحدث بأعماله عند من لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، ولا يملكون موتًا، ولا حياة، ولا نشورًا.

 

 

 

 

([1])    رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، رقم (2985).

([2])    رواه أحمد في مسنده (3/30) وابن ماجة في كتاب الزهد رقم (4204).

([3])    رواه أحمد في مسنده (2/301).

([4])    رواه احمد في مسنده (5/428).

([5])    رواه أبو يعلى في مسنده (9/54) برقم (151) من مسند عبد الله بن مسعود.

([6])    رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإمارة برقم (1095).

([7])    رواه الحاكم في مستدركه (2/332).

([8])    رواه أحمد في مسنده 4/403 .

([9])    رواه البخاري في الرقائق (11/335) برقم (6499).

المرفقالحجم
Microsoft Office document icon 7 - الخوف من الرياء.doc87 كيلوبايت
الحمد لله يعلم السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصـدور.  {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [يونس: 61] أحمده سبحانه على نعمه، وهو للحمد أهل، وأشكره على إحسانه، فهو المحسن المتفضل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله." data-share-imageurl="">