التواضع

الحمد لله معز من أطاعه، ومذل من عصاه، أكرم من شاء بامتثال أوامره والبعد عما عنه نهاه، أحمده سبحانه وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له العزة والكبرياء، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أفضل الأنبياء، وأبعد الخلق عن الكبر والرياء، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه، أهل التواضع والفضل والوفاء ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه واستقيموا إليه، واستغفروه، واعلموا أن عبادته وإخلاص العبودية له لا تكمل إلا بامتثال طاعته في أمره ونهيه، ولا يتم ذلك إلا بالذل والخضوع له وحده، والقيام بحقه الواجب له، وهو عبادته وحده، والبعد عن الإشراك به، وعن مخالفة أمره ونهيه، فمن اتصف بالعبودية لله، وخضع للحق الذي جاء من عند الله، في أصول الدين وفروعه، فهو المتواضع الخاضع لله، ومن أعرض عنه، أو عارضه، فهو المتكبر المستنكف عن عبادته ،
{ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172] والنار قد أعدها الله مثوى للمتكبرين عليه، المستكبرين عن عبادته، فالتواضع لله هو أصل الدين وروحه، والتكبر مناف للدين، وبهذا يتضح معنى الحديث الصحيح عنه r : « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر » ([1])، وقوله r عن ربه U : « العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما ألقيته في النار» ([2]) فكل  من لم يخضع لله، ولعبوديته، وطاعة رسوله فهو مستكبر، وقد فسر r الكبر، والتواضع، تفسيرًا شاملًا، واضحًا، يزيل الإشكال، ويوضح المقال، فقال حين سئل عن الكبر: «الكبر بطر الحق وغمط الناس» ([3]) ومفهومه أن التواضع هو قبول الحق، والانقياد له، وعدم احتقار الناس، فمن قبل الحق وانقاد له، ولم يحقر أحدًا، وتواضع لعباد الله، فهذا هو المتواضع للحق ،وللخلق، وهو القائم بحقوق الله، وحقوق الخلق، ومن بطر الحق، فرده، ولم ينقد له، وغمط الناس، فاحتقرهم،  وازدراهم بقلبه، وقوله، وفعله، فهذا هو المتكبر، ففتش نفسك، هل أنت سالم  منه، وعليك أن تجتهد، وتجاهد نفسك على التحقيق، والاتصاف بخلق التواضع لله، ولعباد الله؛ لتكون من المفلحين، واحذر أن تكون من الخاسرين.

إن التواضع أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده، يقول U لنبيه الكريم: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، ويقول سبحانه: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] فإنه قام r بعبودية الله المتنوعة، وبالإحسان الكامل للخلق، فكان خلقه التواضع الذي روحه الإخلاص لله، والحنو على عباد الله، والرأفة والرحمة بالمؤمنين، فعلى المؤمن أن يتصف بخلقه r، فيتواضع لعباد الله، ويلين لهم جانبه، ويحب لهم الخير، وينصح لهم في كل حالة من أحوالهم، ويحترم الكبير، ويحنو على الصغير، ويوقر النظير، ولا يحتقر الناقص في عقله، أو شرفه، أو البائس الفقير.

إن للمتكبر وللمتواضع علامات لا تخفى، المتواضع ينقاد للحق مع من كان، ولا يبالي بترك قول كان يقوله وينصره إذا اتضح له الصواب، والمتكبر يتعصب لأقواله وأفعاله،ويعجب بقوله ومقاله، يبين له الحق فيشمخ بأنفه كبرًا وتيهًا وعجبًا بنفسه، وبهذا الخلق نزل إلى أسفل الدركات.

المتواضع يسلم على الصغير والكبير، والشريف والوضيع، ويقبل بوجهه وقوله على من تصدى له حتى يقضي حاجته، ويعاشر كل أحد بالمعاشرة الحسنة، والمتكبر لا يبدأ بالسلام، ولا يقبل بوجهه على الفقير والحقير، وينأى بجانبه عن مجالستهما، ولا يهتم بشأنهما، وإنما يتصدى للأغنياء،ويعظم الرؤساء والكبراء، خاضعًا لهم بقلبه، معظمًا لهم بلسانه، وهذا الفعل برهان على رذيلته، وانحطاط خلقه.

إن المتكبرين خسروا ما أعده الله للمتواضعين من الثواب، وحصلوا على الوبال والعقاب، خسروا محبة الناس على اختلاف طبقاتهم، فالناس جبلوا على محبة المتواضعين، ومقت المتكبرين، ومن أظهر من الناس محبتهم وتعظيمهم فذلك زور ونفاق، وهو وقتي يذهب ويزول سريعًا، ما أجهل المتكبرين، وما أحمقهم، بأي وصف يتكبرون؟! وبأي عمل يتجبرون؟! من علم أنه مخلوق فقير، لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ناقص من كل وجه، فبأي شيء يتكبر !! ومن فهم أن أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو بين ذلك يحمل العذرة، فبأي شيء يعجب ويفتخر؟! إن المتواضع حبيب إلى الله، حبيب إلى عباد الله، قريب من الخيرات، بعيد من الشرور والمنكرات، والمتكبر بغيض إلى الله، بغيض إلى عباد الله، بعيد من الإحسان  والخيرات، قريب من الشرور والمنكرات، كم حصل للمتواضع من مودة وصداقات، وكم تم له من ثناء وأدعية من الناس مستجابات، كم جبر بتواضعه من فقير، وكم حصل له بالتواضع من خير كثير، ما تواضع أحد لله إلا رفعه، ولا تكبر أحد إلا وضعه.

التواضع خلق الأنبياء والمرسلين وصفة المتقين والمهتدين، والتكبر خلق الجبابرة والظالمين، طُرد إبليس ولعن بتكبره وتيهه، ورحم آدم بذله لربه وانكساره، وفاز بالنعيم المقيم، والفضل الجسيم، لقد سعد المتواضعون في الدنيا والآخرة، ورجع المتكبرون بالذل والصفقة  الخاسرة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 18، 19].

نفعني الله وإياكم بالذكر الحكيم، وبهدي النبي الكريم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وعليكم بالتواضع وخفض الجناح، وإياكم والكبر والترفع على الناس، وعدم مراعاة شعورهم، فإن كثيرًا من الناس لا يبالون بشعور إخوانهم من المؤمنين، ولا يحترمون مشاعرهم، وربما حصل منهم الأذية لعباد الله، حتى في مساجدهم ومواطن عباداتهم، يؤذون المتعبدين فيها بكثرة اللغط ورفع الأصوات، والبعض من النساء تؤذي بتبرجها، وإظهار محاسنها، تفتن عباد الله في بيوت الله، وأماكن عباداتهم، والبعض الآخر من الناس يأتون مصطحبين معهم أطفالهم الصغار، وأولادهم الذين لا يعقلون، ولا يعرفون حرمة هذا المكان الطاهر، فيحصل منهم تشويش على المصلين والطائفين والذاكرين والتالين لكتاب الله، وهذا في الحقيقة نوع من الأنانية، وعدم المبالاة بالآخرين، وإساءة أدب مع إخوانهم المسلمين، واستهانة بحرمة هذه البقعة الطاهرة، التي أمر الله بتطهيرها، وفيه تلويث لها، ومضايقة لعباد الله المؤمنين، لا يليق بالمسلم أن يفعل هذا، ولا يحسن بعاقل أن يسيء إلى عباد الله في بيوت الله على حساب ترفيهه عن أطفاله وصبيانه، وهم لا يعرفون صلاة، ولا يعقلون عبادة

إن حالة هؤلاء تشعر بأنهم لم يأتوا لهذا المسجد لغرض العبادة، أو أداء الفريضة، ولكن كأنهم جاؤا للتفرج والاجتماع بمعارفهم، ولذلك يطلقون سراح صبيانهم وأطفالهم يمرحون ويصرخون أمام المتعبدين، وبين صفوف الراكعين والساجدين، يشوشون عليهم في صلاتهم، ويزعجونهم في عباداتهم، ترى ولي أمره هادئ البال، مرتاح الضمير، يتحدث مع رفيقه كأنه لم يعمل شيئًا، وهذا في الحقيقة استخفاف بحرمة أفضل بقعة، وبحرمة إخوانه المؤمنين، والله سبحانه حرم أذية المؤمنين، وأمر بتعظيم شعائر الله { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } [الحج: 32].

فاتقوا الله عباد الله، واتقي الله أيتها المسلمة، حافظي على أطفالك، ولا تتبرجي، واحترمي هذا المكان الطاهر إذا كنت أتيت للعبادة، لا تفسدي عبادتك بالتبرج، وإبداء محاسنك أمام الرجال الأجانب، وعظموا عباد الله مساجدكم، لا سيما هذا المسجد الحرام الذي يقول الله فيه: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [البقرة: 125].

 

 

 

 

([1])    رواه مسلم في كتاب الإيمان رقم (132) ورواه الترمذي في كتاب البر والصلة رقم (1998).

([2])    رواه أبو داود في كتاب اللباس رقم (4090) ورواه ابن ماجه في كتاب الزهد رقم (4174).

([3])    رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان رقم (131).

المرفقالحجم
Microsoft Office document icon 17التواضع.doc78 كيلوبايت
الحمد لله معز من أطاعه، ومذل من عصاه، أكرم من شاء بامتثال أوامره والبعد عما عنه نهاه، أحمده سبحانه وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له العزة والكبرياء، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أفضل الأنبياء، وأبعد الخلق عن الكبر والرياء، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه، أهل التواضع والفضل والوفاء ومن تبعهم بإحسان." data-share-imageurl="">