الحرص على الطاعات وفعل الأسباب لها

الحمد لله المنعم المتفضل، رتب الجزاء والثواب على حسن العمل، ونهى عن التعلق بالأماني والعجز والكسل، أحمده سبحانه وأشكره على  ما أعطى وأجزل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في سركم وجهركم، وخافوا من عقابه وغضبه، وثقوا بوعده ومثوبته على حسن العمل، ولا تركنوا إلى الأماني والأوهام، ولا تخدعنكم النفوس بالشهوات والآمال، ولا يغرنكم بالله الغرور. {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].

عباد الله: إن الله خلق الإنسان ضعيفًا، ضعيفًا في جميع شؤونه، ضعيفًا تحت تأثير الشهوة والهوى، يؤثر الفاني على الباقي، يؤثر دنياه على أخراه، فهو يكدح ويكد ويعمل ويجد في طلب المال والجاه، وسعادة الدنيا، ولكنه يتثاقل عن مصالحه الروحية، وسعادته الأبدية، فتجد أكثرنا يحاول أن يكون منطقيًا وواقعيًا عندما يتعلق الأمر بمصالحه المادية، ولكنه هائم في الخيالات والأوهام في أغلب الأحيان عندما يتعلق الموضوع بمصالحه الروحية، إنك تجد أحدنا يسعى ويجد ليله ونهاره، سره وجهاره، لكسب معيشته، وطلب المزيد من المال، فهو يمتطي الأجواء، ويركب البحار، ويقتحم الأخطار في سبيل الحصول على الدرهم والدينار، ولو قلت له: إن الله تكفل بأرزاق العباد، وانتظر ما كتب الله لك من الرزق، فلن يفوتك ما قدر لك. لقال لك: لا بد من فعل السبب، والشرع أمر بمعاطات الأسباب، واستدل بقول الله U : {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [الملك: 15] وبقوله سبحانه: { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] وبغيرهما من الآيات والأحاديث وربما رفع عقيرته بمقالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب  t حينما قال: إن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، فيقال له: إن هذا حق ولا لوم عليك في هذا، ولكن عندما يتعلق الأمر بمصالحه الروحية والدينية التي أوجبها الله عليه، عندما يتعلق الأمر فيما بينه وبين آخرته، فيما بينه وبين والديه، وأقاربه، وجيرانه، وبين أخوانه المؤمنين؛ ستجده حينئذ معرضًا عن فعل الأسباب، ناسيًا مقالته تلك، واستدلاله بالآيات، الكريمات، والأحاديث الشريفة، متثاقلًا متكاسلًا، مهملًا لأمور دينه، لا يبذل في سبيل القيام بها أي مجهود، ولا يعمل في نيلها أي فعل محمود، مقصرًا في الطاعة، مصرًا على المعصية، متناسيًا حق والديه، وحق أقاربه وجيرانه، وحقوق عباد الله، لا يتفطن لقوله r : « المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه » ([1]).«والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم » ([2]). «والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله » ([3]). ناسيًا كل هذا معللًا نفسه بالأماني الباطلة، والآمال الكاذبة، منطبقًا عليه قوله r : « العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني » ([4]) ذاهلًا  عن قوله تعالى:
{ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [الطور: 21] ناسيًا قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 39 - 41] غافلًا عن قوله سبحانه: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [النساء: 123] في هذه الحال، وفي هذا المجال ينسى قولته الأولى لابد من فعل الأسباب، فما الذي عرّفه بأنه لابد من فعل الأسباب عند طلب الدنيا ولذاتها وطمعها، ونسي فعل الأسباب لطلب الجنة والحصول على السعادة الأبدية، سعادة الآخرة؟! لا فرق بينهما، كلا الأمرين جعل الله لهما أسبابًا.

فإذا عرفت أن المال لا يحصل إلا بفعل السبب، فكذلك سعادة الآخرة لا تحصل إلا بفعل الأسباب والاستقامة على الطاعة فإذا لم تقم بعبادة الله، ولم تخلص عملك لله، ولم تمتثل ما أمرك الله به من طاعته، واجتناب ما نهاك عنه من معصيته، ولم تقدم لآخرتك أعمالًا صالحة، من صلاة وزكاة، وصيام، وذكر، وشكر لله، وبر بالوالدين، ومعاملة حسنة مع أقاربك وجيرانك وسائر المسلمين.

إذا لم تعمل بهذا ولم تبتعد عن المعاصي، ولم تترك الشهوات المحرمة، ولم يسلم عباد الله المؤمنون من لسانك ويدك، ولم تبتعد عن الظنون السيئة، والتهم المتخيلة، فأين فعل الأسباب؟! ثم إنه لا يجوز الاعتماد على الأسباب فقط، بل لابد معها من الاعتماد والتوكل على الله، الذي بيده كل شيء وهو مسبب الأسباب، وله الخلق والأمر، فإذا فعلت السبب، واعتمدت على الله، نلت سعادة الدنيا والآخرة.

عباد الله: انظروا بعين البصيرة فيما يسعدكم في آخرتكم، كما نظرتم بعين الحقيقة إلى ما يسعدكم في دنياكم، وراقبوا الله في سركم وعلنكم، وراقبوه سبحانه عند أوامره فلا تتركوها، وعند نواهيه فلا تنتهكوها، وعند حدوده فلا تعتدوها، فإن مراقبة الله من أفضل درجات الإيمان، فيستحضر العبد أن الله يراه ومطلع عليه في كل حالاته، وهي درجة الإحسان التي يقول فيها r : « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ([5]).

وقد قال U : { إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف: 56]، وقال سبحانه: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } [الأعراف: 156].

ويقول سبحانه: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [النازعات: 34 - 41].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلوا أن الله جعلكم مستخلفين في الأرض، وأرسل إليكم رسله، وأنزل كتبه، هداية لكم وتبصرًا وحجة على خلقه، وتذكيرًا {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء: 165]، فلم يترك الخلق سدى، ولا تركهم هملًا، بل أبان لهم السبيل، وأوضح لهم الدليل،وذكر،وأنذر،وخوف،وحذر( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) [القيامة: 36] بلا أمر أو نهي، بل أبان سبحانه لهم الحق، وحملهم أمانة العمل بما أمرهم به، وأوضحه لهم، وأمانة حفظ الجوارح عما نهاهم عنه، ورتب الجزاء على قيامهم بالتكليف، وتحملهم أعباء العمل بما أمروا به، ووعدهم على ذلك الجزاء العاجل في الدنيا، والثواب الآجل في الأخرى. يقول سبحانه: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [آل عمران: 148] ويقول U : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [الطلاق: 2، 3] وقال r: «اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك، تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا »  ([6]).

 

 

 

 


([1])    رواه البخاري في كتاب الإيمان رقم (10).

([2])    جزء من حديث رواه  الترمذي في الإيمان رقم (2627).

([3])    رواه أحمد في مسنده (6/20).

([4])    رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم (2459).

([5])    رواه البخاري في كتاب الإيمان برقم (50).

([6])    رواه أحمد في مسنده (2/310)،والترمذي في كتاب الزهد، رقم (2305).

الحمد لله المنعم المتفضل، رتب الجزاء والثواب على حسن العمل، ونهى عن التعلق بالأماني والعجز والكسل، أحمده سبحانه وأشكره على  ما أعطى وأجزل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه." data-share-imageurl="">