الشكر

الحمد لله مثيب الطائعين، ومجزل العطاء للشاكرين، أحمده سبحانه على نعمائه، وأشكره على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله . اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان .

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على إحسانه، اشكروه بألسنتكم وقلوبكم وأعمالكم، فإن شكر الله قيد للنعم الموجودة، وسبب لحصول النعم المفقودة، كما أن عدم الشكر سبب لزوال النعم وحلول النقم، يقول سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }[إبراهيم:7].

عباد الله: إن الشكر من الأخلاق المحمودة التي تصدر من النفوس الطيبة، والقلوب الصافية، والطباع الزاكية . إن الشكر اعتراف بالجميل، وعلى الوفاء أوضح دليل، يبرهن عن خلق صاحبه، يزيل عنه شائبة النكران والجحود، ويبعد عنه وصف اللئيم الكنود، ففيه يحصل ترادف النعم، وزوال النقم، فيه انشراح الصدر، وتمام الأمر، ورفيع الذكر .

أيها المسلمون: من أحق بالشكر ؟! ومن أولى بجميل الذكر ؟! إنه الله عز وجل، الخالق الرازق، المتفضل، الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، خلقه في أحسن تقويم، وفضله على أكثر العالمين، خلق كل شيء من أجله، وسخره له بتسخيره، وميزه بالعقل والتفكير، وخصه بالفهم وحسن التدبير، أسبغ عليه النعم الظاهرة والباطنة . لقد أنشأكم سبحانه من العدم، ووالى عليكم أصناف النعم، أنبت لكم الزرع والزيتون، والنخيل والأعناب، ومن كل الثمرات{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[إبراهيم:34] .

أيها المؤمن: من الذي ينقذك إذا عظم البلاء؟! ويشفيك إذا عجز الأطباء ؟! ويدلك إذا تحيرت الأدلاء ؟! أليس هو اللطيف الخبير ؟! مَن الذي أعطاك ما تمنيته، وأمنك مما تحذره وتخشاه، أليس هو إلهك الحق المبين، وإله الأولين والآخرين، لا رب غيره، ولا إله سواه .

عباد الله: اشكروا الله على ما خصكم به من النعم في هذا البلد الأمين، وفي عموم هذه البلاد التي اختصها الله بنعم لا ينعم بها كثير من الناس في غير هذه البلاد، أمن وطمأنينة، عدل ورخاء، تحكيم لشريعة الله المطهرة، صيانة للأعراض، حماية للنفوس، سلامة على الأموال، محافظة على الحقوق، إنه قل وجودها عند غيركم.

إنكم تعلمون أن كثيرًا من البلاد فيها الحكم بغير ما أنزل الله، فيها سلب الحريات، وانتهاك الحرمات، فيها عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيها نهب الأموال، فيها القتل والتشريد، فيها القلق والاضطراب، لا أمن على الأرواح، ولا على الأعراض، ولا على الأموال، وأنتم ولله الحمد والمنة، تتمتعون بالأمن والطمأنينة، ورغد العيش، وهذا كله من الله، يقول سبحانه:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}[العنكبوت:67].

إنها تتوالى عليكم نعم الله ويتجدد عليكم إحسانه وفضله، ولقد نبه سبحانه عباده على بعض النعم والمنن الجسام، والمنافع العظام، ليتذكروا نعمه عليهم، فيشكروه ويعبدوه حق عبادته، فقال سبحانه في تعداد نعمه علينا:{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }[النحل:66-69].

والقرآن الكريم فيه من الآيات الكثيرة جدًا اللاتي ينوه الله فيها بالنعم على عباده، ويذكرهم بها، ليقوموا بشكرها، ويثنوا عليه بها، ويعبدوه حق عبادته، ويتقوه حق تقاته .

عباد الله: إن الشكر الحقيقي على هذه النعم هو الشكر بالقلب، والجوارح، واللسان، فشكر القلب أن يعترف بها لله وحده، وأنها من عنده سبحانه، لم تحصل للعبد بحوله وقوته، ولكنها فضل وإحسان من الله، ولا يضيفها لنفسه، ويقول: هذا بجهدي، أو بمعرفتي بالأمور، أو لأني أستحق ذلك . فإن هذا من كفران النعم، ولكن يعترف بأنها من عند الله ويضيفها إليه وحده .

وأما الشكر بالجوارح: فهو العمل بطاعة الله، مما أمر الله به من أنواع العبادة، والبعد عما نهى الله عنه من أنواع الذنوب والمعاصي، كما قال سبحانه{ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] .

وأما الشكر باللسان: فبكثرة الحمد والشكر له سبحانه، والثناء عليه بها، والتحدث بنعمه،{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }[الضحى:11].

وكل نعمة من نعم الله سبحانه، لها من الشكر ما يقابلها، فنعمة الخلق والإيجاد من العدم أن تقوم بعبادته وحده، وتخلص له العبادة ؛ لأنه خلقك من أجلها، كما قال سبحانه: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56] فهذه الآية الكريمة تبين أنه جل وعلا خلقنا لنعبده، ونفرده وحده بالعبادة، كما قال ابن عباس وغيره من الصحابة y: العبادة هي القيام بما وجب عليهم من عبادته وحده وترك عبادة ما سواه . وفي المسند عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: « يقول الله سبحانه: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل، ملأت صدرك شغلًا، ولم أسد فقرك » رواه الإمام أحمد وغيره([1]).

وأما نعمة الهداية إلى الإسلام والإيمان وسلوك الصراط المستقيم فالقيام بشكر هذه النعمة هو الاستمرار على طاعة الله والاستقامة على ذلك كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[الأحقاف:13] وإن العبد متى ترك ما أوجب الله عليه من العبادة والطاعة إما كسلًا أو عدم مبالاة بالأوامر الإلهية فإنه قد يسلب هذه النعمة ؛ لأنه لم يقم بشكرها، كما قال سبحانه:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الأنعام:110].

وأما شكره سبحانه على نعمة الرزق وما منَّ الله به على عبده من أصناف النعم والأموال فإن القيام بشكرها إخراج الواجب فيها من حق الزكاة والواجبات الشرعية، والعطف على الفقراء والمساكين، وصرفها في طاعة الله، والاعتراف بحق المنعم بها .

وإن من كفران النعمة صرفها في غير ما أباحه الله من الأمور المحرمة، وعدم أداء حقوقها من زكاة، وواجبات، أو التخبط فيها ببذلها في السرف والخيلاء والشهوات المحرمة.

وإن كثيرًا من الناس اليوم ابتلوا بصرف نعم الله فيما لا يحل، وبما يعود عليهم بالضرر في دينهم ودنياهم، فيصرفون نعم الله فيما يسخطه سبحانه في الإسراف والشهوات، واللهو واللذات، التي نهى الله عنها ونهى عنها رسوله r، وربما أفسدوا بيوتهم وأهليهم ومن تحت أيديهم من الأولاد، ففتحوا لهم أبواب الملاهي، والمناظر المحرمة التي تهدم الأخلاق، وتعود على الاستخفاف بالمعاصي، حتى خفت في نفوس كثير منهم، واستسهلوا أمرها غير خائفين من الله،ولا مبالين بما يسقط مروءتهم، أو يجرح عدالتهم.

فاتقوا الله عباد الله وخافوا من عقابه وسخطه، ومن زوال نعمته، وتحول عافيته، وفجاءة نقمته، فقد وعد الله الشاكرين بالمزيد من نعمه، وتوعد الجاحدين، الكافرين بالنعمة، بالعذاب الشديد يقول سبحانه:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }[إبراهيم:7].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .

أول الخطبة الثانية

الحمد لله قديم الإحسان، ذي العطاء الواسع والامتنان، أحمده سبحانه وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه .

أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله سبحانه، وراقبوه في سركم وعلانيتكم، واعلموا أن الله سبحانه هو المنعم المتفضل هو الذي خلقكم لتعبدوه وحده، وأنعم عليكم بأصناف النعم التي لا تحصونها، لتعترفوا بها لربكم، ولتقوموا له بشكرها،{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }[إبراهيم:34].

مَنَّ عليكم بنعمة السمع والبصر، بنعمة الفهم وإدراك  الأمور التي فيها مصالحكم ومنافعكم في أمور دينكم ودنياكم،{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل:78].

بهذه النعم التي بينها سبحانه وذكرنا  بها يفرق المرء بين ما ينفعه وما يضره، يعرف العبد ربه، ويعرف نعمه فيشكره عليها، وتزداد محبته لربه الذي أنعم عليه بها، وبها يتصرف في جميع شؤونه، وتدبير أحواله، ومعرفة الأسباب التي هيأها الله له، لنيل أسباب الطمأنينة، والحياة الطيبة التي يسعد بها في أمور دينه ودنياه، فاشكروه سبحانه، وأكثروا من ذكره، وحمده، وتمجيده، فقد قال سبحانه: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}[البقرة:152] .

 

 

 

([1])    رواه أحمد في مسنده (8481)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع رقم (2466) .

المرفقالحجم
Microsoft Office document icon 11الشكر.doc82 كيلوبايت
الحمد لله مثيب الطائعين، ومجزل العطاء للشاكرين، أحمده سبحانه على نعمائه، وأشكره على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله . اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان .

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على إحسانه، اشكروه بألسنتكم وقلوبكم وأعمالكم، فإن شكر الله قيد للنعم الموجودة، وسبب لحصول النعم المفقودة، كما أن عدم الشكر سبب لزوال النعم وحلول النقم، يقول سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }[إبراهيم:7]." data-share-imageurl="">