مصاحبة الأخيار

الحمد لله الواحد القهار، ذي العز والاقتدار، أنعم على عباده بجوده المدرار، ووهب لهم العقول والأفكار، ووالى عليهم نعمه الغزار، أمرهم بمصاحبة الأخيار، وحذرهم عن صحبة الأشرار، أحمده سبحانه على فضله وإحسانه، وأشكره على جوده وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن تقواه جنة من عذابه، وسبب للفوز برحمته وحصول مرضاته. واعلموا عباد الله أن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، ميالة إلى الكسل والبطالة، متبعة لكل داع إلى اللهو والإخلاد إلى الشهوات، والانحطاط عن مراتب الشرف والكرامة، فلابد للعاقل من كبح جماحها، والأخذ بزمامها وقيادتها إلى كل خير يعود عليها بالنفع، ويسعدها في دينها ودنياها.

وإن كثيرًا من النفوس تميل إلى الشر والفساد، والبغي والعناد، والظلم من شيم النفوس إلا من رحم الله، فوهب لها عقلًا راجحًا، وإيمانًا قويًا يحميها عن الظلم والطغيان، ويمنعها عن الفساد والعدوان، ويذودها عن حظيرة الذل والهوان.

وإن من أضر الأشياء على النفوس بعدها عن مجالسة أهل العلم والصلاح، وأهل الإيمان والفلاح، من ذوي النفوس العالية، والصفات الزاكية، وقربها من أهل الشر والفساد، وجلساء السوء وأهل العناد، الذين لا دين لهم زاجر، ولا عقل لهم رادع، فهؤلاء ينمون ما جبلت عليه نفوس جلسائهم من الشهوات والشبهات، ومحبة الباطل والظلم للناس في أعراضهم وأموالهم، فإن من شأن النفوس أن تتأثر بالجليس، وأن تكتسب من صفات من حولها وبيئتها، وبنديمها وقرينها، وإن القرين بالمقارن يقتدي، والجليس بصفات جليسه يرتدي.

فإذا نشأ المرء بين أناس صالحين، وقوم بالأخلاق الفاضلة متصفين، فإنه يكتسب من أخلاقهم، ويتصف بصفاتهم.

فإذا كان من يخالطهم ويعاشرهم ممن سمت أخلاقهم، وزكت نفوسهم وطابت طباعهم، وكرمت صفاتهم، وحسنت أعمالهم، اكتسب من تلك الصفات الحميدة، وتأثر بتلك الغايات النبيلة، فطاب خلقه، وصلح عمله، وحسنت سريرته، وحمدت سيرته.

وإن بلي -عياذًا بالله- بجلساء ذوي أخلاق فاسدة، ومجالس ماجنة، لا يأمرون بمعروف ولا يفعلونه، ولا يجتنبون منكرًا ولا ينكرونه، يتصفون بالفسق والمجون، وللشهوات المحرمة متبعون، وعن مجالس الذكر مبتعدون، وللمساجد مجتنبون، ولدور اللهو يهرعون، لا يذكرون الله إلا قليلًا، وإذا ذكروا لا يذكرون،وإذا تليت عليهم آيات الله تولوا وهم معرضون، غلظت طباعهم، وفسدت تصوراتهم، وذهبت أعمارهم سبهللا، كما وصفهم U في قوله:{ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] فحينئذ لا تسأل عن جليسه، إنه فقد بسبب جليس السوء سعادته واكتسب شقاوته، وذهبت قيمته ومروءته في مجتمعه، وعميت بصيرته عن دينه وآخرته { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72].

فعليك أيها العاقل الناصح لنفسه بالبحث عن الجليس الصالح الذي يتصف بمكارم الأخلاق ويحثك عليها، ويجتنب سيء الأخلاق ويحذرك منها، عليك بالجليس الذي وصفه لك نبيك r ، وأرشدك إليه، وحثك على الاقتراب منه وعليك بالبعد كل البعد عمن حذرك منه نبيك r، فقد ضرب لك وهو الناصح الأمين أحسن الأمثال وصورة لك بأوضح صوره وأحسن عبارة، ففي الصحيحين عنه r أنه قال: « مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة » ([1]).

فاتق الله أيها المسلم، واتبع ما يأمرك به كتاب ربك، وما ترشد إليه سنة نبيك r فلا أرحم بك من الله، ولا أشفق عليك من نبيك r وابتعد عن قرين السوء، فإنه شيطان يعدك ويمنيك، ويوقعك في الفخ ويرديك، ويصدك عن السبيل القويم، ويهديك إلى سواء الجحيم، وستنقلب تلك المودة التي بينك وبينه عداوة، لأنها صداقة مدخولة، وصحبة مشبوهة،وإن هذه الصداقة مهما طالت فمآلها إلى عداوة صريحة، وكراهية مريرة، تنفصم عراها لأول احتكاك يقع بينهم، من أجل مغنم مأمول، أو مغرم سيؤل، فلا يلبث بعضهم أن يتبرأ من بعض، وتتجلى تلك العداوات على أشدها يوم القيامة، حينما يتفرق الأصحاب، وتنقطع الأنساب{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67] ولا ينفعك إذا كنت قرينه يوم الحساب،ولا يخفف عنك شيئًا إذا كنت رفيقه في العذاب {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } [الزخرف: 39] فتجنبوا رحمكم الله مصاحبة الأشرار، ولازموا مجالسة الأخيار تسعدوا في دينكم ودنياكم.

أيها الآباء والأمهات والمسئولون عن التربية والتعليم، حافظوا على أماناتكم، وراقبوا الله فيمن تحت أيديكم، وحافظوا عليهم كل وقت، لا سيما في أوقات الفراغ والإجازات، حافظوا عليهم عن الذهاب إلى مراتع الشر والفساد، وجنبوهم جلساء السوء والعابثين بالقيم والأخلاق{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] إن جلساء السوء يتصيدون أبناءكم ليردوهم في الذل والهوان، ويلبسوهم رداء الفساد والطغيان، فهم لصوص الكرامة، ومروجو الخزي والندامة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 - 29].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله الحكيم الخبير، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ نعمه، وعلى ترداف مننه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعملوا بكتاب ربكم، واهتدوا بسنة نبيكم تفلحوا، وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واعلموا عباد الله أن مخالطة أهل الخير بركة وفلاح، وأن مجالسة أهل السوء شؤم وشقاء على صاحبها، وقد قال بعض العلماء: إن في الإنسان حب التقليد، فهو يحاكي من يخالطه ويجالسه، فإن جالس أصحاب العقول الراجحة، والأفكار الصالحة، والأخلاق العالية، سرت تلك الصفات منهم إليه، ومن خالط الأشرار، اكتسب من صفاتهم، ودنسوا عرضه، وأفسدوا عقله، وعرفوه من سبل الشر ما لم يكن يعرفها، ومن طرق الفساد ما كان غافلًا عنها ويجرونه إلى كل وقيعة، وإلى كل صفة شنيعة.

وإذا أردت أن تعرف الجليس الصالح، وأن تعرف جليس السوء فاعلم أن من علامة الجليس الصالح أن يأمرك بالمحافظة على الطاعات وأداء الواجبات، ويحثك على البر بالوالدين، وصلة الأرحام، وبالبر والإحسان ويحسن لك الصبر والحلم والتحمل من الناس، ويحذرك من الذنوب والمعاصي، ويذكرك بالله، ويرغبك في آخرتك، وينهاك عما يدنس عرضك أو يخدش كرامتك، فإذا كان كذلك فلازم صحبته وأقبل نصيحته، وقد قيل: من جالس الأخيار أخذوا بيده إلى مرافقة الأبرار.

وإن من علامة جليس السوء أنه يأمرك باتباع الشهوات المحرمة  ويحسنها لك، ويتثاقل عن الطاعات، ويثني عزمك عنها، ويستثقل سماع الذكر، وعدم الإصغاء للناصحين، ويتهاون في حقوق الله، وحقوق الوالدين والأقارب، وربما حسَّن لك أذية الجار، وعدم الاهتمام بحقوقه، وعدم الالتزام بالصدق والمواعيد والعهود، وقد قيل: من جالس الأشرار قادوه إلى دار الخزي والبوار، والله U يقول وهو أصدق القائلين:

{ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } [الزخرف: 36 - 39].

 

 

 

([1])    رواه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، رقم (5108) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب رقم (2628).

المرفقالحجم
Microsoft Office document icon 19مصاحبة الأخيار.doc77.5 كيلوبايت
الحمد لله الواحد القهار، ذي العز والاقتدار، أنعم على عباده بجوده المدرار، ووهب لهم العقول والأفكار، ووالى عليهم نعمه الغزار، أمرهم بمصاحبة الأخيار، وحذرهم عن صحبة الأشرار، أحمده سبحانه على فضله وإحسانه، وأشكره على جوده وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان." data-share-imageurl="">