فريضة الحج وفضل العشر

الحمد لله الذي جعل بيته الحرام مثابة للناس وأمنًا، وجعل حجه على المستطيع فرضًا لازمًا، أحمده سبحانه على جزيل نعمائه، وأشكره على ترادف مننه وآلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وبادروا بأداء ما أوجب الله عليكم من طاعاته وعباداته، وابتعدوا عن أسباب سخطه وعقابه، واعلموا أن الله فرض الحج إلى بيته الحرام على المستطيعين من عباده، وجعله ركنًا من أركان دين الإسلام، فمن لم يقم بأداء هذا الركن العظيم من أركان ديننا الحنيف، وتساهل فيه، فقد عرض نفسه لعذاب الله، إذا كان قادرًا مستطيعًا؛ لأن الله U يقول: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [آل عمران: 97] وقد حث المصطفى r على المبادرة بأداء فريضة الحج عند تحقق الاستطاعة، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r : « تعجلوا إلى الحج -يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له » ([1]).

وإن من رحمة الله بعباده أنه لم يفرض الحج على المسلم كل عام ولكن فرضه في العمر مرة واحدة كما قال r : «الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع» ([2]).

وقد رتب الشارع على أداء الحج الفضل العظيم، والثواب الجسيم كما جاء ذلك في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة t قال: سمعت رسول الله r يقول: « من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه » ([3]). أي رجع إلى أهله نقيًا من الذنوب كيوم ولدته أمه لا ذنب عليه. فهذا فضل عظيم ينبغي أن يتسابق إليه المتسابقون ويسارع إلى فعله المتقون.

أما من أدى فريضة الحج، ويشق عليه الوصول إلى بيت الله الحرام، خصوصًا في مثل هذه الأوقات التي يكثر فيها الزحام وهو يحب فعل الخيرات، والتزود من الطاعات،والتقرب بأنواع العبادات، فقد جعل الله له أبوابًا كثيرة من أبواب البر والطاعات، رتب عليها الفضل الكبير، والثواب الجزيل، عبادات بدنية، وعبادات مالية، وعبادات قولية.

وإن من أفضل ذلك ما رغب فيه r وحث عليه، وهو العمل في عشر ذي الحجة، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي r قال: « ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء » ([4]).

وقد قال بعض العلماء رحمهم الله: وقد دل الحديث على أن العمل في أيام عشر ذي الحجة أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا كلها، من غير استثناء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضلها عنده.

فينبغي للمسلم أن يسارع إلى عبادة ربه، ويقوم بالأعمال الصالحة، لاسيما في عشر ذي الحجة، من كثرة الصلاة، والصيام، والصدقة، والإحسان إلى الناس، والعفو عمن ظلمه، والصفح عمن أساء إليه.

وإذا كان في الحج تجتمع العبادات البدنية والمالية؛ فإنه يحصل للمسلم هذا العمل أيضًا في غير الحج، فالصلاة عبادة بدنية، وكذلك الصيام، وما يقوم به المسلم من عون وخدمة لإخوانه المؤمنين المحتاجين إليه.

ومن العبادات المالية ما ينفقه المرء على المحتاجين،والتجاوز عن المعسرين، وتفريج كرب المكروبين، وما أكثرهم في أمتنا الإسلامية اليوم يا عباد الله: حيث لا يخفى عليكم واقع إخوانكم المؤلم في كثير من البلاد الإسلامية، لاسيما ما يجري الآن من اعتداءات شرسة، وأحداث مؤلمة على إخوانكم في فلسطين، وفي البوسنة والهرسك، وفي كشمير، وبورما، وغيرها مما يجري على إخوانكم في العقيدة والدين وهم في أمس الحاجة إلى عون إخوانهم، ومساندتهم، الوقوف بجانبهم ماديًا ومعنويًا.

وإن صرف الأموال إلى إخوانكم أولئك من أفضل أعمال التطوعات، لا سيما إذا وقع ذلك على وجه السر والكتمان، ليكون أبلغ في الإخلاص، وأبعد عن الرياء، وأقرب إلى القبول فقد جاء في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r : « سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -فذكر منهم- رجلًا تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه » ([5]).

وإن من أجل الطاعات، وأفضل القربات، ما حث الله عليه في  كتابه، ووصى به r أمته، من كثرة ذكر الله جل وعلا بقوله سبحانه: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]، وكما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة t أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله r فقالوا: ذهب أهل الدثور -يعنون الأغنياء-بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال، يحجون، ويعتمرون،  ويجاهدون، ويتصدقون. فقال r : « ألا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون فيه من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم » ؟ قالوا: بلى، يا رسول الله . قال: « تسبحون، وتحمدون، وتكبرون خلف كل صلاة، ثلاثًا وثلاثين » ([6]) والمعنى: يقولون: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ثلاثًا وثلاثين مرة، فهذه تسع وتسعون. وورد في الحديث الآخر أنهم يقولون تمام المائة: « لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير » ([7]) فهذا فضل عظيم وهو يسير على من يسره الله عليه.

وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r:

« كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم » ([8]).

فاجتهدوا عباد الله في التقرب إلى الله بالطاعات، وأنواع العبادات، فقد ندبكم ربكم لذلك، وأمركم به، يقول سبحانه: 

{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
[آل عمران: 133، 134].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أول الخطبة الثانية

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد: أيها المسلمون اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، اتقوه في أقوالكم وأعمالكم، أخلصوا له العبادة وحده، واعلموا أن أصل دين الإسلام وأساسه هو إفراد الله بالعبادة، وتعلق القلوب به دون من سواه، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال  والأعمال، وهي التي شرعها الله لنا في كتابه العزيز، أو على لسان نبيه الكريم r .

فيجب إفراد الله بالعبادة بجميع أنواعها، من دعاء، وتضرع إليه، والتجاء، وتوكل عليه، وذبح، ونذر، واستغاثة، واستعانة،{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].

إن دعاء الأموات وطلب الحاجات منهم، نوع من أنواع الشرك الذي نهى الله عنه، يقول سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60] فقصر الدعاء عليه وحده، ويقول جل شأنه:{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13، 14] فسمى الله دعاء غيره شركًا بقوله: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ }فاتقوا الله عباد الله،وحققوا إيمانكم بربكم تفلحوا.

عباد الله: إنكم في هذه الأيام تلتقون بإخوان لكم جاؤكم من كل فج عميق، ملبين دعوة خليل الرحمن، مؤدين لركن من أركان دينهم إن لهم عليكم حقوقًا بالرفق بهم، والإحسان إليهم، والصبر والتحمل لما قد يصدر  منهم من غير قصد،وعدم مضايقتهم، ورفع الأشعار عليهم في حوائجهم وضرورياتهم، من مسكن، أو مأكل، أو مشرب، أو مركب. إنهم وفود بيت الله، وإن من احترام بيت الله احترام من يحجه ويعتمره ويعظمه، كما أن عليكم معشر الحجاج حقوقًا نحو بيت الله الحرام من تعظيمه، واحترامه، وعدم الإساءة فيه، ومضايقة عباد الله المؤمنين من الوافدين إليه، ومن المقيمين فيه.

إن لهذا البيت حرمة عظيمة عند الله، لهذا حرم سبحانه القتال فيه، ولم يأذن لأحد أن يقاتل فيه سوى نبيه r ساعة من نهار، وحرم قطع شجره، وتنفير صيده، وحش حشيشه،ورتب سبحانه على ذلك جزاء ماديًا، كما حرم الاصطياد فيه، أو إزعاج صيده، وتوعد بالعذاب الأليم لمن اعتدى في ذلك، بل نهى r أن يعضد شوكه، ومعلوم أن الشوك فيه ما فيه من أذية ومع ذلك حرم قطعه.

وإذا كانت هذه حرمة نوع من أنواع الحيوان الذي خلق لنا، وأبيح لنا اصطياده، وأكله في غير الحرم، وإذا كان في الحرم حرم علينا صيده وتنفيره، بل حرم قطع الشجر والحشيش والشوك، كل ذلك لحرمة هذا البيت العتيق، فكيف تكون حرمة المؤمنين المتعبدين فيه، والعاكفين، والركع السجود!!

إن أذية المؤمن أيًا كانت في الحرم أو غيره من الأمور المحرمة التي رتب عليها القرآن الإثم المبين، فكيف إذا كان في بلد الله الأمين، وبجوار بيته العتيق، الذي جعله  الله للناس سواء العاكف فيه والباد !!

فاتقوا الله عباد الله، وعظموا حرمات الله، والتزموا الآداب عند بيته، وفي بلده الأمين، وفي بلد رسوله الكريم r تنالوا الأجر والثواب.

 

 

 

 

([1])    رواه أحمد في مسنده (1/314).

([2])    رواه أبو داود في كتاب المناسك رقم (1721)، وابن ماجة في كتاب المناسك رقم (2886).

([3])    رواه البخاري في كتاب الحج (1820) ومسلم في الحج أيضًا رقم (1350).

([4])    رواه أبو داود في كتاب الصوم برقم (2438) والترمذي في كتاب الصوم أيضًا، برقم (757)، وابن ماجة في كتاب الصيام رقم (1727).

([5])    رواه البخاري في كتاب الأذان رقم (660)، ومسلم في كتاب الزكاة رقم (1031).

([6])    رواه البخاري في كتاب الأذان رقم (843)، ومسلم في كتاب المساجد رقم (595).

([7])    رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم (597).

([8])    رواه البخاري في كتاب الدعوات رقم (6406)،ومسلم في كتاب الذكر والدعاء رقم (2694).

المرفقالحجم
Microsoft Office document icon 13فريضة الحج وفضل العشر.doc85.5 كيلوبايت
الحمد لله الذي جعل بيته الحرام مثابة للناس وأمنًا، وجعل حجه على المستطيع فرضًا لازمًا، أحمده سبحانه على جزيل نعمائه، وأشكره على ترادف مننه وآلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين." data-share-imageurl="">