المؤمن من أمنه الناس

 

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأبان لنا الحلال والحرام، وأرسل إلينا  رسوله محمدًا خير الأنام، عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، أحمده سبحانه على فضله العميم، وإحسانه القديم،  وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه، وامتثلوا أمره ولا تعصوه، واجتنبوا نهيه ولا تقربوه، واتبعوا هدي نبيكم تفلحوا، واعملوا بتوجيهاته الحكيمة تهتدوا، ولقد كان من توجيهاته الكريمة، وحكمه العظيمة، ونصائحه القويمة r ، ما جاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله r : « المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه » رواه البخاري ومسلم([2]).

وللترمذي والنسائي: «والمؤمن من أمنة الناس على دمائهم وأموالهم»([3]) وزاد أحمد: « والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله » ([4]).

في هذا الحديث بيان لأصول الدين وهي الإسلام والإيمان والهجرة والجهاد، بينها r أتم بيان، وأوضحها أتم إيضاح بكلام جامع شامل، فأخبر r أن المسلم الحقيقي هو من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأن المهاجر  الحقيقي هو من هجر ما نهى الله عنه، وأن المؤمن الحقيقي من أمنه الناس  أي قام بحق الله، وحق عباد الله، فأمنه الناس على دمائهم وأموالهم، وأن المجاهد الحقيقي من جاهد نفسه في طاعة الله، ومن أهمها الجهاد في سبيل الله .

فأوضح r أن الإسلام التام هو الاستسلام لله في كل شيء، من أوامره ونواهيه، والوقوف عند حدوده، وأداء العبادات التي أمر الله بها كاملة، وقام بالحقوق التي أوجبها الله عليه فيما بينه وبين الخلق فالتزم بالقيام بالحقوق التي بينه وبين ربه، والتي بينه وبين عباد الله، ولا يتم ذلك حتى يحب للمسلمين ما يحب لنفسه، ولن يتحقق هذا المعنى إلا بسلامتهم من شر لسانه ويده.

فاللسان من أعظم الجوارح ضررًا، ومن أسوئها نتائج، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل t، لما قال له: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال r : « ثكلتك أمك يا معاذ؛ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم!! » ([5]).

فإذا أطلق المرء لسانه فلا تسأل عما يجول ويخوض فيه من الشر والبلاء فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا، هذا اللسان الذي شبهه العلماء بالثعبان في جراحه وآلامه، فكم أذهب من أطلق لسانه في أعراض الناس من حسناته، وأهداها لمن يتكلم في  عرضه من البهت والعدوان والكذب والافتراء والطعن في الأعراض، تارة بالقذف والعياذ بالله الذي يوجب عذاب الدنيا والآخرة،وتارة بالقول على الله بلا علم، والقول على رسوله r وقد قال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 21] ويقول الرسول r : « من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» ([6]) وتارة يذهب حسناته بالغمر واللمز للغافلين من المؤمنين والمؤمنات، والاستهزاء والتهكم بهم، وما يدري هذا المتكلم أنه بفعله هذا يهدي إليهم أفضل ما اكتسب من الحسنات؛ يهديها إلى الناس وهو أحوج ما يكون إليها، يهدي إليهم حسناته يوم القيامة من صلاة، وصيام، وحج، وصدقة، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وإحسان، وغير ذلك من أنواع الطاعات.

كما جاء ذلك في الحديث الذي قال فيه r لأصحابه: « ما تعدون المفلس فيكم؟ » قالوا: يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال r : « إن المفلس من أمتي الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وصدقة، ويأتي وقد  ظلم هذا، وضرب هذا، وشتم هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم، فألقيت عليه، ثم طرح في النار » ([7]).

ثم إنه r قال في الحديث المتقدم: « المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم » ، وذلك أن الإيمان إذا باشر القلب وامتلأ به أوجب لصاحبه القيام بحقوق الإيمان الواجبة التي من أخصها رعاية حق الله وحقوق عباده، من حفظ الأمانات، والصدق في المعاملات، والكف عن الظلم، والورع عن أموال الناس ودمائهم وأعراضهم ومن كانت هذه صفته عرف الناس ذلك منه، فأمنوه، ووثقوا به، فاتصف بأنه قد أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، فصار مؤمنًا بوصف النبي r له بذلك، فإن رعاية الأمانة من أخص واجبات الإيمان، ولذلك قال r : « لا إيمان لمن لا أمانة له » ([8]).

ثم بين r أن الهجرة التي هي فرض عين على كل مسلم بأنها هجر الذنوب والمعاصي، وهذا فرض لا يسقط عن كل مكلف في كل حال من أحواله، فإن الله حرم على العباد انتهاك المحرمات، والإقدام على الذنوب والمعاصي.

ومنها: الهجرة الخاصة التي هي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وهي جزء من هذه الهجرة التي أشار إليها r وهي هجر الذنوب والمعاصي، فإن هجر ما نهى الله عنه واجب على كل مسلم، وأما الهجرة  من بلد الكفر إلى بلد الإسلام فهي لا تجب إلا عند وجود أسبابها والابتلاء بها، أعاذنا الله من الفتن، وهجر الذنوب والمعاصي واجب على كل حال، وفي كل زمان ومكان، وهي أشمل وأعم.

ثم بين r معنى الجهاد فقال: (( والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله))  فالمجاهد الحقيقي هو الذي يجاهد نفسه على طاعة الله، من صلاة، وصيام، وصدقة، وصلة، وبر وإحسان، فإن النفس ميالةٌ إلى الكسل عن الخيرات، أمارة بالسوء متصفة في الغالب بالشح والبخل، سريعة التأثر عند المصائب،وتحتاج إلى صبر وجهاد في إلزامها بطاعة الله، وثباتها ومجاهدتها على الصبر عند المصائب وأقدار الله المؤلمة، ومن أشرف الأمور  الجهاد في سبيل الله فإن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الدين.

عباد الله: من حقق هذه ا لوصايا والتوجيهات النبوية، وقام بما دلت عليه؛ فقد قام بالدين كله، من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأمنه الناس  على دمائهم وأموالهم، وهجر ما نهى الله عنه ورسوله r ، وجاهد نفسه على طاعة الله؛ فإنه لم يفته شيء من دينه، ولم يبق من الخيرين الديني والدنيوي شيء إلا فعله، ولا من الشر شيء إلا تركه،والموفق من وفقه الله.

اللهم وفقنا للعمل بكتابك، والأخذ بتوجيهات نبيك، وأعنا على أنفسنا، ووفقنا لما تحب وترضى.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [الحج: 78].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله ذي الفضل والإحسان، والعطاء والامتنان، أحمده سبحانه وأشكره على كل حال وزمان، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله في جميع أحوالكم، وفي كل أوقاتكم، وراقبوه في إسراركم وإعلانكم،واعلموا عباد الله أن الله I فضل بعض الأوقات على بعض، وشرف بعض الشهور والأيام والليالي على غيرها، وجعلها متجرًا لعباده المؤمنين، ومن أهمها وأفضلها شهر  رمضان الذي أنزل فيه القرآن، جعله الله سبحانه شهرًا مباركًا، وموسمًا عظيمًا من مواسم الخيرات، يجود فيه الرب سبحانه على عباده برفع الدرجات، وغفران السيئات، وقد قرب قدومه عليكم، وحلوله بين أظهركم، فاستقبلوه بالفرح والاستبشار، { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].

ولقد كان نبيكم r يفرح بقدومه، ويستقبله بصدر منشرح، ونفس مطمئنة، وعين قريرة، ويبشر أصحابه بقدومه، ويحثهم على القيام بحقه، ويبين لهم مزاياه وفضله، لتقوى عزائمهم، وتسمو هممهم، وليتسابقوا فيه إلى الخيرات.

فقد روى ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي وغيرهما عن سلمان الفارسي t قال: خطبنا رسول الله r في آخر  يوم من شعبان فقال: « أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعًا، من تقرب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة،وشهر يزاد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء » قالوا: ليس كلنا نجد ما يفطر الصائم، فقال r : « يعطي الله هذا الثواب من فطر صائمًا على تمرة، أو شربة ماء، أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، من خفف عن مملوكه غفر الله له، وأعتقه من النار، واستكثروا فيه من أربع خصال؛ خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم، فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه، وأما اللتان لا غنى بكم عنهما، فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار، ومن أشبع فيه صائمًا، سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة » ([9]).

 

 

 

([1])    آخر خطبة من شعبان.

([2])    رواه البخاري في كتاب الإيمان رقم (10) ومسلم أيضًا في الإيمان رقم (41).

([3])    رواه الترمذي في كتاب الإيمان رقم (2627) والنسائي أيضًا في كتاب الإيمان رقم (4995).

([4])    رواه أحمد في مسنده (6/21-22).

([5])    رواه الترمذي في كتاب الإيمان رقم (2616) وابن ماجة في الفتن رقم (3973).

([6])    رواه البخاري في كتاب العلم رقم (110).

([7])    رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب رقم (2581).

([8])    رواه أحمد في مسنده (3/135-154-210-251)، والبيهقي في الكبرى (6/288) وغيرهما.

([9])    رواه ابن خزيمة في صحيحه (3/191) برقم (1887).

المرفقالحجم
Microsoft Office document icon 1 - المؤمن من أمنه الناس.doc82.5 كيلوبايت
 

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأبان لنا الحلال والحرام، وأرسل إلينا  رسوله محمدًا خير الأنام، عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، أحمده سبحانه على فضله العميم، وإحسانه القديم،  وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين." data-share-imageurl="">