الرجوع إلى الله

 

الحمد لله الكريم التواب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب خلق الإنسان لعبادته، وجعل الدنيا دار كسب وعمل، والآخرة دار جزاء للعقاب والثواب: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].

أحمده سبحانه، وأشكره على سوابغ فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله-تعالى-حق تقاته، واعلموا أن هذه الحياة الدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار القرار، فاعملوا صالحا تفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة، واحذروا المعاصي فإنها موجبة للخزي والندامة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5، 6].

ألا وإن نبينا r أرشدنا إلى ما ينبغي أن نتصف به في هذه الحياة؛ فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرt قال: ((أخذ النبيr، بمنكبي، فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)).

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصحبت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك. وعن ابن عباسt عن النبي r أنه قال: (( اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك )).

عباد الله: كل زمان في هذه الدنيا إلى زوال وانتهاء، وكل حي فيها صائر للفناء، وكل شيء ما خلا الله باطل، وكل نعيم في الدنيا ذاهب وزائل، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [الرحمن: 26، 27]. أما يفكر كل منا بحاله؟! ويتذكر مصيره وارتحاله؟! لعله يرجع إلى ربه فيجدد إنابة وتوبة، يمحو بها ما أسلفه من ذنوبه وحوبه.

عباد الله: كم غافل عن منيته! يرفل في ثياب صحته! متمتعا بنعمة العافية! فرحا بقوته وشبابه، لا يخطر له الضعف ببال، ولا الموت في حال من الأحوال، هجم عليه المرض، وجاء الضعف بعد القوة، وحل الهم من نفسه محل الفرح، والكدر مكان الصفاء، ولم يعد يؤنسه جليسه، ولا يسره محدثه وأنيسه، قد سئم ما كان يرغبه في صحته، وصار لا يشتهي الغذاء، ويكره تناول الدواء، يفكر في عمر أفناه، وشباب أضاعه و أبلاه، ويتذكر أموالا جمعها، ودورا بناها، وقصورا شيدها، يتألم لدنيا يفارقها، ويترك ذرية ضعافا يخاف عليهم الضياع من بعده، مع اشتغال نفسه بمرضه وآلامه، وتعلق قلبه بما يعجل شفاءه، ولكن ما الحيلة إذا استفحل الداء، ولم يفد الدواء، وتغيرت طبائعه ومزاجه، وتحير الطبيب في علاجه، عندها يستشعر الندم على ما مضى، ويحس بعواقب التفريط والإهمال: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق: 22].

هذا وكم وكم، ممن زلت به القدم بدون سابق مرض أو ألم؛ بل هجمت عليه المنية هجوم السبع على فريسته، فاستلبه الموت بدون إمهال أو انتظار، ورحل وترك هذه الدار، (  وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ  ) [ق: 19]. فإن كان من أهل الإيمان والطاعات فذاك راحة له من دار الأنكاد والأكدار، وإن كان من أهل الشرك والمعاصي، فهي إخذة أسف وعذاب. وكم نشاهد كثرة الراحلين إلى دار القرار، وتنوع أسباب الموت ومفارقة الحياة، ولكننا في لهونا ساهون، وعما يراد بنا غافلون: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } [الأنبياء: 1].

ألا وإن السعيد من راقب مولاه، واتقى الله في جهره ونجواه، وكف نفسه عن الذنوب والمعاصي، وعمل عملا صالحا يؤنسه في لحده، ويؤمنه من عذاب ربه. فاتقوا الله، عباد الله، وأنيبوا إلى ربكم ما دمتم في زمن الإمكان، فالله رحيم بعباده يحب توبتهم، ويقبل معذرتهم، وهو القائل جل شأنه: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [الزمر: 53، 58].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله الباقي على الدوام، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، أحمده سبحانه وأشكره، وأسأله التوفيق للتوبة والإنابة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.

أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله-تعالى-وأطيعوه، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله: { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18].

 فخذوا حذركم قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل، وفوات الأوان ومعالجة السكرات: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 88 - 95].

 

المرفقالحجم
Microsoft Office document icon 13الرجوع إلى الله.doc73 كيلوبايت
 

الحمد لله الكريم التواب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب خلق الإنسان لعبادته، وجعل الدنيا دار كسب وعمل، والآخرة دار جزاء للعقاب والثواب: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]." data-share-imageurl="">