بين القنوط والأمن من مكر الله

الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، بصر من شاء من عباده بسلوك الطريق القويم، أحمده سبحانه على فضله الجسيم، وأشكره على إحسانه العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، سيد المرسلين، وإمام المتقين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين .

    أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتدبروا كتاب ربكم تفلحوا، وتفهموا سنة نبيكم تهتدوا، وانهجوا نهج صحابته الكرام، والأئمة الأعلام، الذين منَّ الله عليهم بفهم القرآن الكريم، ووفقهم للتمسك بهدي نبيه الأمين .

واعلموا عباد الله أن الله عز وجل أمرنا بمراقبته وتقواه، والخوف من الذنوب، وعاقبة المعاصي، والجرأة على محارم الله، وأخبر سبحانه أنه شديد العقاب، وأن أخذه أليم شديد، وقد قال r: « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته »([1])، وقال سبحانه في حق من اغتر بهذه الدنيا وفرح بها، ونسي الله ولم يعمل بطاعته: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:44-45] ولكنه سبحانه مع هذا أخبر أنه غفور رحيم، وأنه لطيف بعباده، وأنه أرحم الراحمين، وأن رحمته وسعت كل شيء، فذكر سبحانه عقابه للظالمين المعتدين المعرضين عن الله، المتمادين في الذنوب والمعاصي والمجاهرين بهما، الذي لا يخافون من عقاب الله، ولا يتناهون عن منكر فعلوه، فهم آمنون من مكر الله، غير خائفين من قبيح فعالهم، وسوء أعمالهم، فهؤلاء جمعوا بين أمرين عظيمين، الجرأة على الله، والأمن من مكر الله، وقد قال سبحانه: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}[الأعراف: 99].

وهناك صنف آخر من الناس عملوا ما عملوا من الذنوب والمعاصي، وحالت ذنوبهم بينهم وبين الله، واستولى عليهم اليأس، ولبس عليهم الشيطان، ووسوست لهم نفوسهم أن الله لا يغفر لهم، ولا لمن عمل كعملهم، وأنهم هالكون بما فعلوا، فازدادوا بظلمهم وعملهم السيء ظلمًا وإثمًا وجرمًا بما هو أعظم إثمًا من ذنوبهم كلها، وهو يأسهم من روح الله ومن مغفرته ورحمته، والله عز وجل يقول:{وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف:87]، وقال سبحانه: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}[الحجر:56].

فهذان صنفان من الناس، فريق بارزوا الله بالذنوب وأمنوا مكر الله، وفريق عملوا السيئات وظنوا أن الله لا يغفر لهم .

فاعلم أيها المسلم أن كلا الفريقين هالك منحرف عن الصراط المستقيم، والطريق القويم، لأنهم ابتعدوا بذلك عن منهج المؤمنين، فاحذروا عباد الله أن تكونوا من هؤلاء الصنفين فتهلكوا، ولكن عليكم باتباع سبيل عباد الله التائبين، الراجين لرحمة الله، والخائفين من عذابه، فإنه سبحانه وصف أنبياءه ورسله بأنهم كانوا يدعونه رغبًا ورهبًا، رغبة فيما عنده، ورهبة من عذابه، وقد قال سبحانه:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] فهو غفور لمن تاب إليه وندم على زَلَلِـه واستغفر لذنبه.

يقول عز وجل مناديًا أهل العصيان والإسراف في الذنوب: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }[الزمر:53]، ويقول عز وجل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}[طه:82] ويقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}[الشورى:25].

ولما ذكر سبحانه أعظم الذنوب، وأكبر الكبائر، وهي الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وارتكاب فاحشة الزنا، وأخبر أن من عمل ذلك ولم يتب، أنه يضاعف له العذاب يوم القيامة، ويخلد فيه مهانًا، ثم قال سبحانه: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }[الفرقان:70] .

وفي الحديث عنه r: « كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»([2]) فتوبوا عباد الله إلى الله، ولا تستعظموا ذنوبكم مهما كانت في جنب عفو الله، فإنه سبحانه عفو يحب العفو، تواب يحب التوابين، رحيم رحمته وسعت كل شيء .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }[آل عمران:135-136].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .

 

 

 

 

([1]) رواه البخاري في كتاب تفسير القرآن عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى.....}[هود: 102]، رقم ( 4686)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، رقم (2583).  

([2])  رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم (2499)، وابن ماجه في كتاب الزهد، رقم (4251) .

المرفقالحجم
Microsoft Office document icon 8- بين القنوط والأمن من مكر الله.doc73.5 كيلوبايت
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، بصر من شاء من عباده بسلوك الطريق القويم، أحمده سبحانه على فضله الجسيم، وأشكره على إحسانه العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، سيد المرسلين، وإمام المتقين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين ." data-share-imageurl="">