الدعوة إلى الله

الحمد لله العلي الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، له ملك السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وقد وسع كل شيء رحمة وعلمًا، أحمده سبحانه وبحمده يلهج من في الأرض والسماء، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، عالم السر والنجوى، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى كلمة التقوى، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، أئمة العلم والهدى.

  أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واتبعوا أوامره وانتهوا عن نواهيه، وتدبروا كتاب ربكم، فإنه الهادي إلى الصراط المستقيم، والمنذر من العذاب الأليم، إنه يدعو إلى ما يقرب من جنات النعيم، ويحذر مما يكون سببًا لدخول دار الجحيم.

وإن مما دعا إليه كتاب الله وسنة رسوله r الدعوة إلى الله،  الدعوة إلى سلوك سبيل المؤمنين، والتحذير من الانخراط في سلك الجاهلين الغافلين، يقول U مخاطبًا نبيه الكريم r : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، فقد بين جل جلاله في هذه الآية الكريمة طريقه إلى الله ورسمها لنا بأوضح دلالة، وأوجز عبارة، إنها دعوة إلى الله على بصيرة، أي علم ويقين من الله فيما يدعو إليه الداعي، لا على ظن وتخمين أو تقليد لغيره بدون علم يستضيء به، إن هذه الدعوة التي أمر الله بها هي طريقة رسول رب العالمين وهديه الذي يتمشى عليه، ويرسمه لأصحابه، يرسمه r بأفعاله وبأقواله وحركاته وسكناته، فلذلك كان صفوة الأمة بعد نبيهم r أصحابه الكرام الذين سلكوا مسلكه، وساروا على منهجه، يدعون إلى الله على علم وبصيرة، يدعون إلى الله بأفعالهم وبأقوالهم، وربما كانت الدعوة بأفعالهم أكثر من أقوالهم، وبصفاتهم أبلغ من مواعظهم وكلامهم، ما أقل كلامهم، وما أكثر أفعالهم، يفعلون المعروف قبل الأمر به، ويبتعدون عن المنكر قبل النهي عنه، اعتمدوا على تعليم الناس بالأعمال قبل الاعتماد على الأقوال، كانوا من ورعهم يتدارؤن الفتوى، كل منهم يدفعها إلى صاحبه، ويرى أنه غير أهل لها مع سعة علمهم، وجلالة قدرهم، وعظم ورعهم، كل هذا بعدًا عن الشهوة، وفرارًا من ثناء الناس  عليهم، وخشية من القول على الله بلا علم .

أين نحن منهم اليوم؟! لقد كثرت منا الأقوال، وقلت الأعمال. لقد حذرنا r غاية التحذير ممن يعظون الناس وتخالف أقوالهم أفعالهم، يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويفعلونه، فقد جاء في الصحيحين عن أسامة بن زيد t قال: سمعت رسول الله r يقول: « يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها، كما يدور الحمار في الرحا، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه » ([1]).

إنه لخطر عظيم على من يقول ولا يفعل {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } [الصف: 3].

لقد سلك الرعيل الأول من الصحابة الكرام وتابعيهم بإحسان مسلك أنبياء الله ورسوله، يدعون إلى الله على بصيرة، يدعون إلى الله بالتي هي أحسن، يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، أعطاهم الله الحكمة في الدعوة، وفي الأمر والنهي . لقد كانوا في صفاتهم كما قال الله U : {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] فالحكمة وضع الشيء في موضعه، وبقدره، بدون زيادة في التصرف أو التكليف، وبدون نقص في التبصير أو جنوح إلى التقصير. فقد كانت أقوالهم وأفعالهم وتدبيراتهم تابعة للحكمة، موافقة للصواب، غير متقدمة على أوانها، ولا متأخرة عن إبانها، وبلا زيادة عما ينبغي ولا نقص فيما يطلب.

أولئك هم الرجال الكُمَّل، وعليهم المعول، وهم القدوة في كل زمان ومكان، عملوا بالحكمة في التعليم والتوجيه، يعلمون طلابهم صغار المسائل قبل كبارها، وواضحها قبل مشكلها، بحسب فهم الطالب وقدرته على استيعاب ما يلقى إليه بعبارة سهلة واضحة مختصرة، وعملوا بالحكمة في نصحهم وإرشادهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، بحسب ملاءمة الوقت والحال المناسبة للمنصوح أو المأمور، يستعملون الرفق، والكلمات الطيبة التي لا تنفر ولا تجرح الشعور، في رفق وتأن، كما قال بعض السلف: على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عليمًا فيما يأمر، عليمًا فيما ينهى، حليمًا فيما يأمر، حليمًا فيما ينهى، رفيقًا فيما يأمر، رفيقًا فيما ينهى، وإلا كان ضرره أكثر من نفعه.

ولقد رسم لنا القرآن ا لكريم صفة الدعوة إلى الله حينما ذكر سبحانه قصة موسى مع فرعون، فإن فرعون كان أعتى أهل الأرض، يقول لقومه: { فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [النازعات: 24]، ويقول: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]،فلما بعث الله له موسى وأخاه هارون، قال الله لهما: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [طه: 43، 44] فأمرهما سبحانه بالقول اللين، وبين أن ذلك أدعى للقبول وأسهل إلى الانقياد للحق، وأبعد عن النفور، وهذا تنبيه لكل داع إلى الله  أن يسلك هذا المسلك في دعوته، وهكذا كانت دعوته r وتعليمه وإرشاده للناس، وربما احتاج الأمر في بعض الحالات إلى القوة والردع عند التمادي في الطغيان والوقوف في وجه الحق، والدعوة إلى الله، فلكل مقام ما يناسبه.

ولكن من الضرر الكبير البداءة بالعنف والشدة؛ لأن فيها تنفيرًا عن قبول الحق، بل فيها التنفير عن سماع أقوال صاحب الحق والداعي إلى الله، فالشدة والعنف لا تستعمل إلا عند الضرورة، وبقدر الحاجة فقط، ثم إن على الداعي إلى الله أن يُوَطِّن نفسه على تحمل ما يلقاه في سبيل دعوته، وأن يتدرع بالصبر فيما يقابل به من بعض السفهاء، وأن يعفو ويصفح عمن أساء إليه بعزم صادق ونية صالحة، وتأس بأولي العزم من المرسلين،  وأتباعهم فقد قال r حينما اشتد أذى قومه له موطنًا نفسه على الصبر: « لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر» ([2])  ممتثلًا أمر ربه سبحانه بقوله: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، فصلاة الله وسلامه على سيد الداعين، وعلى من سار على نهجه إلى يوم الدين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [فصلت: 33 - 36].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

أول الخطبة الثانية

الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، أحمده سبحانه وأشكره على فضله الجسيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، والهدى القويم، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعملوا بالحكمة والموعظة الحسنة التي أمركم الله بها، واتبعوا تعاليم نبيكم محمد r والزموا هديه وطريقه في الدعوة إلى الله بأقواله وأفعاله وتوجيهاته، فلقد حث r على استعمال الرفق في جميع الأمور الدين والدنيا، يقول r : « ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه» ([3]) ويقول r : « إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف » ([4]) فاعملوا  بتوجيهاته واتصفوا بها في جميع أموركم واحذروا من التكلف أو الدخول في أمور لا تعنيكم، فقد قال r : « من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » ([5]).

وإن من التكلف أن يقحم بعض الناس نفسه، ويتصدى للأمر والنهي وهو لا يعرف حكم ما يأمر به ولا ما ينهى عنه، فإنه يحصل بسبب ذلك خلل في الدين واستخفاف بالعلم وأهله، وكم تظاهر بعض الناس بالوعظ والإرشاد وهو لا يحسن ذلك، وإنما يتصيد بعض المقالات من بعض العلماء وهو لا يدري مأخذها ولا يوقعها موقعها، وكم تطاول بعض الجاهلين ممن قل علمهم وأحبوا الشهرة، فأنكروا أمورًا لا توجب الإنكار، وربما تكلموا في أعراض الناس لتركهم شيئًا من الأمور المستحبة التي يثاب فاعلها، ولا يعاقب تاركها، وربما كان استحبابها عند بعض العلماء دون بعض، فربما  وقعوا في الغيبة التي هي من كبائر الذنوب من أجل أمور غير واجبة، وهذا لقلة العلم، وغلبة الجهل، ونتج عن ذلك عداوة في الدين، وتفرق واختلاف وتخطئة للعلماء وربما تطاول بعض السفهاء فتناول بعض الأئمة رحمهم الله بالتنقص أو التخطئة، وكل هذا سببه قلة العلم وحب الشهرة، فاتقوا الله عباد الله واتبعوا هدي من سلف من الصحابة الكرام وتابعيهم بإحسان.

 

 

 

 

([1])    رواه البخاري في كتاب بدء الخلق، رقم (3267)،ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، رقم (2989).

([2])    رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء رقم (3405).

([3])    رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب رقم(2594).

([4])    رواه الترمذي في كتاب الزهد، رقم (2318)، وابن ماجة في كتاب الفتن، رقم (3976).

([5])    رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب رقم (2593).

المرفقالحجم
Microsoft Office document icon 16 - الدعوة إلى الله.doc80 كيلوبايت
الحمد لله العلي الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، له ملك السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وقد وسع كل شيء رحمة وعلمًا، أحمده سبحانه وبحمده يلهج من في الأرض والسماء، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، عالم السر والنجوى، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى كلمة التقوى، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، أئمة العلم والهدى." data-share-imageurl="">