طلب المال من حله

الحمد لله الذي أعطى فأغنى وأقنى، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، يبتلي أقوامًا بالفقر، ويبتلي آخرين بالغنى، ليتبين الصابر على البلواء،  والشاكر على النعماء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، أحمده سبحانه وأشكره على إحسانه القديم، وإفضاله العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله،  سيد الشاكرين، وأفضل الصابرين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه البررة المتقين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في سركم وجهركم وغناكم وفقركم، واعلموا أن الدنيا دار بلاء وامتحان، وهم ونكد، ولا بد لكل أحد من هذا وذاك.

يقول سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] فيبتلي سبحانه عبده في هذه الدنيا بالفقر والمرض كما يبتلي أقوامًا بالصحة والعافية، وهذه من حكمه سبحانه في خليقته كما قال سبحانه: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] فالعبد يكدح في هذه الدنيا، ويتقلب فيها بأنواع التحركات النافعة من عمل صالح، وطلب رزق حلال، أو يتقلب فيها بأنواع التقلبات الضارة في دينه ودنياه، كما قال سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6] أي ملاق جزاء عملك من الثواب والعقاب، فكل عامل سيلقى جزاء عمله من خير أو ضده. 

ولما كان العبد في هذه الحياة لا بد له من القيام بحق الله وحق نفسه وحق من يقوم بمؤنتهم، فلابد له من طلب المعيشة، والسعي وراء ما يقوم بأوده، وما يحتاج إليه في معاشه، فهو في حاجة إلى طلب المال والرزق، ولكن ينبغي أن يسلك في طلبه مسلك عباد الله المؤمنين، الذين يطلبونه من الوجه الحلال، وينفقونه في الوجوه المشروعة، وفيما يعود عليهم نفعه من دينهم ودنياهم، فنعم المال الصالح للرجل الصالح يكتسبه من طريق الحلال، وينفقه في مصالحه ورضا ربه، ويعرف حق الله فيه.

ولقد حث سبحانه على طلب الرزق بقوله U : {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [الملك: 15]،ولقد وصف سبحانه أصحاب نبيه بقوله {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].

فوصف أصحاب رسوله r بأنهم تارة يسيرون في الأرض في التجارة وطلب لرزق الحلال وتارة يقاتلون في سبيل الله لرفع راية الإسلام، لتكون كلمة الله هي العليا، فهم في كلا الحالين مأمورون بذلك، مأجورون على كسب الحلال، للتقوي به على طاعة الله، والنفقة على من  تحت أيديهم، وعلى بذله في وجوه الخير، وفي الجهاد في سبيل الله، ولولا وجود التكسب من تجارة أو صناعة أو حراثة أو غيرها لما أمكنهم القيام بضروراتهم، والبذل في سبيل الله، ولهذا كان أصحاب رسول الله r يجتهدون في طلب الحلال من الرزق كل فيما يناسبه، فهذا في تجارته،  وذاك في حراثته، وآخر في صناعته، ولم تلههم أعمالهم هذه عن طاعة ربهم، كما وصفهم سبحانه، ووصف من سار على نهجهم بقوله: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ُ} [النور: 37] فهم لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وشرائها وربحها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أن الذي  عنده هو خير لهم وأنفع مما في أيديهم،  لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق، ولذا قال تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } [النور: 37] أي يقدمون طاعته ومراده ومحبته سبحانه على مرادهم ومحبتهم، ولم تلههم تجارتهم أيضًا عن حضور مجالسه r ولا الصلاة معه، ولا الجهاد وحضور مشاهد الخير مع الرسول عليه الصلاة والسلام.

فهذا عثمان بن عفان t لم يتخلف عن رسول الله r في غزواته وجهاده، ومع ذلك عنده ثروة من المال، نفع الله بها الإسلام والمسلمين، فلقد تصدق بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، وبألف دينار في مجلس واحد لتجهيز جيش العسرة، وله غيرها من البذل العظيم t وأرضاه.

وهذا عبد الرحمن بن عوف t كان من أثرياء الصحابة، وقد تصدق مرة بنصف ماله، ومرة بأربعين ألف دينار، ومرة حمل في سبيل الله على خمسمائة فرس،  ومرة حمل على خمسمائة بعير في سبيل الله، ولم تمنعه تجارته عن المشاهد النبوية، وكان هو وعثمان رضي الله عنهما من العشرة الذين بشرهم رسول الله r بالجنة.

عباد الله إنه مما ينبغي العلم به أن يعلم المؤمن أن المال وسيلة، وليس غاية، إنما هو وسيلة للاستغناء به عن الناس، وللقيام بحقوق الأهل  والأولاد، وللإعانة على طاعة الله، وصرفه في مراضي الله، من بذل في  سبيل الله والإحسان إلى الفقراء والمساكين والمعوزين والأيتام وذوي  الحاجات والمنكوبين والمعسرين، لينال العبد بالبذل في هذه الأمور رضا ربه، ورفع الدرجات، وتكفير السيئات، وحصول البركة له في ماله وولده وأعماله، وليعلم العبد أنه مسئول يوم القيامة عن ماله، من أين اكتسبه، وفيما أنفقه.

وإن من أهم الأمور في الدين الورع والكف عن المحرمات والبعد عن الشبهات، وطلب الحلال والأكل منه، والبعد عن المال الحرام اكتسابًا وأكلًا، يقول سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] وقال جل وعلا : {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] ، وقال سبحانه:{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] ويقول r: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا » ([1]).

واعلموا عباد الله أن أكل الحلال ينور القلب، ويرققه، ويجلب الخشية من الله، والخشوع لعظمته وجلاله، وينشط الجوارح للعبادة والطاعة، ويزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة، وهو سبب في قبول الأعمال الصالحة، واستجابة الدعاء، كما قال r لسعد بن أبي وقاص: (( أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة )) ([2]) فكان t مستجاب الدعوة.

وأما أكل الحرام فصاحبه على الضد من جميع هذه الفضائل، فأكل الحرام يقسي القلب، وتستولي بسببه الغفلة، ويقيد الجوارح عن الطاعات، ويثبط عن أعمال الخير كما أن أكل الحرام يمنع من استجابة الدعاء، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r : « إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يارب يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك » ([3]).

إن الأموال المحرمة يا عباد الله، مستخبثة الأصول، ممحوقة المحصول، إن صرفها صاحبها في بر لم يؤجر، وإن صرفها لمدح لم يشكر، ثم هو لأوزارها متحمل، وعليها معاقب، قال بعض الحكماء: شر المال ما لزمك إثم مكسبه، وحرمت أجر إنفاقه.

فاتقوا الله عباد الله، وعليكم باكتساب الأموال من الأوجه المباحة، وتوقي الطرق المحرمة، فإن ذلك من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168].

نفعني الله وإياكم بالذكر الحكيم، وبهدي النبي الكريم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبحانه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، والتزموا العمل بطاعة الله ومرضاته، وعليكم عباد الله باكتساب الأموال من أوجهها المباحة التي شرعها الله U، وأذن فيها، واحذروا من اكتسابه من طرق محرمة أو مشتبهة، فإن الله تعالى ما حرم شيئًا إلا وأغنى عنه بمباح من جنسه، ليكون عونًا على طاعته، وحاجزًا عن مخالفته، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t : ما أمر الله بشيء إلا وأعان عليه، ولا نهى عن شيء إلا وأغنى عنه.

وإن مما يؤسف له أيها المؤمنون أن البعض من الناس لا يتحاشون عن اكتساب المال من أي طريق لاح لهم، أو أي سبيل عرض لهم، فربما تعاملوا بالربا والغش والخداع وأخذ الرشاوى، غير مبالين باغتصاب مال الغير أو حقه، ويتحايلون على الاستيلاء على الأموال العامة أو الخاصة بأشكال مختلفة، وصور متعددة، بلا خوف من الله، ولا حياء من عباد الله، وهذا مصداق لما جاء في الحديث الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r : (( ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ أمن حلال أم من حرام )) ([4]) فاتقوا  الله عباد الله، وعليكم بالبعد عما حرم عليكم من المكاسب المحرمة، والأوجه المشتبهة، واكتفوا بما أحل لكم سبحانه من المكاسب الطيبة، والطرق المشروعة، وتذكروا على الدوام قول الحق جل وعلا : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 2، 3].

 

 

 

 

([1])    رواه مسلم في الزكاة رقم (65) باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها.

([2])    عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (10/291) إلى الطبراني في المعجم الصغير.

([3])    رواه مسلم في كتاب الزكاة رقم (65) باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وترتيبها.

([4]) رواه البخاري في كتاب البيوع ، رقم 2059 .     

المرفقالحجم
Microsoft Office document icon 13طلب المال من حله.doc82.5 كيلوبايت
الحمد لله الذي أعطى فأغنى وأقنى، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، يبتلي أقوامًا بالفقر، ويبتلي آخرين بالغنى، ليتبين الصابر على البلواء،  والشاكر على النعماء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، أحمده سبحانه وأشكره على إحسانه القديم، وإفضاله العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله،  سيد الشاكرين، وأفضل الصابرين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه البررة المتقين." data-share-imageurl="">