الحث على التوبة والبعد عن الظلم

ألقيت بتاريخ 5/6/1411هـ .

الحمد لله الواحد القهار { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3].

أحمده سبحانه على نعمائه، وأشكره على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العالم بالجهر وما يخفى، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله خير الورى. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أولي البر والوفا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في سركم وجهركم، واخشوه حق خشيته، واعبدوه عبادة المحسنين الذين يعبدونه كأنهم يرونه، ويعلمون أنه يراهم في جميع تحركاتهم وسكناتهم، فقد ندب الله عباده المؤمنين إلى الخوف منه، وإلى خشيته ومراقبته، وإلى أن تخشع قلوبهم لذكر الله، وأن لا يكونوا من الذين استولت عليهم الغفلة، وطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، فقد قال سبحانه:{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16] فبهذه الآية ندبنا الحق سبحانه إلى خشيته ومراقبته لتفادي المعاصي والذنوب، وحذرنا سبحانه من أن يصيبنا ما أصاب من قبلنا من استيلاء الغفلة وقسوة القلوب، وعدم التوبة والرجوع إلى الله.

يقول سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]. وبهذا القول الفصل قسم الحق سبحانه عباده إلى قسمين: قسم التائبين، وقسم الظالمين. ومن لم يكن من أهل القسم الأول فهو من القسم الثاني، الذين هم الظالمون.

فالظالمون هم أولئك الغافلون الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وغرهم بالله الغرور، فلازمتهم الغفلة، وسيطر عليهم الغرور، واسترسلوا في شهواتهم ولذاتهم طيلة حياتهم، دون أن يفكروا أدنى تفكير فيما يؤول إليهم، عندما يكون مصيرهم إلى الله، فهم سكارى بخمر الغفلة على الدوام، {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }[الأعراف: 179]، { أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [النحل: 108، 109]  فما أسوأ حال أولئك، وما أخسر صفقتهم.

أما التائبون الذين يراقبون الله في حركاتهم وسكناتهم، فهم المؤمنون الذين يتذكرون الله بين الحين والآخر، ويراجعون حسابهم مع الله، ويحاسبون أنفسهم قبل الحساب فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم وبين عباد الله، ليكونوا من ربحهم وخسرانهم على بينة ويقين، فإذا أحسوا أن سيئاتهم قد تكاثرت بادروا إلى تصحيح الأحوال، وإصلاح الأوضاع، وتداركوا بالعمل الصالح والاستغفار ما فاتهم، كما وصف سبحانه عباده المتقين بقوله:{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].

وقال سـبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ}أي:ذكروا عظمته وجلاله، وذكروا الحساب والعذاب،{فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}[آل عمران: 135، 136].

فالتائبون الذاكرون الله كثيرًا هم الذين تخلصوا من رق الغفلة وذهول النسيان، ولازموا وصية الناصح الأمين r حينما أوصى معاذًا t بقوله: «والله إني لأحبك يا معاذ، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك » ([1]).

فهم يذكرون الله بأسمائه الحسنى في كل مناسبة وكل آن، ويثنون على خالقهم ورازقهم، الذي يحيي ويميت، وبيده الخير، وهو على كل شيء قدير، يثنون عليه بما له من صفات الكمال والجلال، ويعترفون بحكمته في جميع الأفعال والأحوال،{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } [آل عمران: 41].

التائبون الذاكرون الله إذا أذنبوا استغفروا، وإذا أعطوا شكروا، وإذا ابتلوا صبروا.

الذاكرون الله هم الذين إذا ألمت بقلوبهم نزغة من النزغات، أو حلت بساحتهم أزمة من الأزمات، أو خاضوا المعارك والغمرات، ذكروا الله فاعتصموا به؛ ليسلموا من همزات الشياطين. واستمدوا من الله القوة والمدد والنصر والعون، ولم يعتمدوا على الأسباب وحدها، بل يفعلون الأسباب مهما استطاعوا ويتوكلون على رب الأرباب، الذي بيده كل شيء، الذي يقول للشيء كن فيكون، مستغفرين لذنوبهم، ذاكرين الله في كل أحوالهم، معتمدين عليه في جميع أمورهم، ليتغلبوا على أزماتهم، ويخرجوا منها منتصرين ظافرين بحول الله وقوته، لا بحولهم ولا بقوتهم،{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]. فالثبات على الحق في الأزمات من سمات المؤمنين، ومن صفات المتقين.

وقد جرت سنة الله أن يبتلي عباده ببعض قوى الشر والفساد، ليختبرهم، ويمتحنهم، كما قال سبحانه { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3].

فإنه سبحانه يبتلي عباده بالخير والشر، ويمتحن إيمانهم بالمصائب تارة، وبالنعم تارة، يمتحنهم بالشدة بعد الرخاء، وبالرخاء بعد الشدة، وبالصحة والمرض، والفقر والغنى، يمتحنهم بما يحبون، وبما يكرهون، لينظر مبلغ شكر الشاكرين، ومدى صبر الصابرين والمحتسبين، كما قال سبحانه { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء: 35].

فاتقوا الله أيها المؤمنون جميعًا لعلكم تفلحون، وإني أكرر وصيتي لإخواني المرابطين والمجاهدين، الذين يجاهدون في سبيل الله، ويدافعون عن عقيدتهم، وعن دينهم، وعن محارمهم، ومقدسات الإسلام، وعن وطنهم.

أوصيكم بتقوى الله في السر والعلانية، والالتجاء إلى الله، والإكثار من ذكره وشكره، والتوبة والاستغفار، فنعم العون ذكر الله والاعتماد عليه وحده، مع بذل جميع الأسباب، وقد كان هذا دأب النبي r ودأب أصحابه، عندما تلتحم المعارك، وتشتبك السيوف تتعلق قلوبهم بربهم، وخالقهم، ويلهجون بذكره، فتنزل عليهم السكينة، ويحصل لهم الثبات، ويتم لهم النصر على الأعداء، وما النصر إلا من عند الله، ومن كان مع الله كان الله معه،{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران: 200].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أحمده سبحانه على نعمائه، وأشكره على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وابتعدوا عن الذنوب والمعاصي، فإن الله شديد العقاب، وإنه يغار على محارمه، وينتقم من الظالمين، وأخبر أن بطشه شديد، لمن تمادى في ظلمه وطغيانه، كما أخبر سبحانه أنه غفور رحيم لمن تاب إليه، وندم على سوء فعله، وأنه يحب التوابين، ويفرح بتوبة عبده.

ففي الحديث عنه r أنه قال: « لله أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دويّة مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه، فنام، واستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش، أو ما شاء الله قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ، فإذا راحلته عنده، عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن من هذا براحلته»([2]).

فتوبوا عباد الله إلى ربكم كما أمركم، توبة نصوحًا. واعلموا أن للتوبة النصوح شروطًا ثلاثة: الأول: الإقلاع عن الذنب. والثاني: الندم على فعله. والثالث: العزم على أن لا يعود لمثله. فإذا توفرت هذه الشروط فهي التوبة النصوح المقبولة عند الله I .

 

 

 

([1])    رواه النسائي في كتاب السهو رقم (1286)، ورواه أبو داود في كتاب الصلاة رقم (1522).

([2])    رواه مسلم في كتاب التوبة، رقم (2744).

المرفقالحجم
Microsoft Office document icon 7الحث على التوبة والبعد عن الظلم.doc80 كيلوبايت
ألقيت بتاريخ 5/6/1411هـ .

الحمد لله الواحد القهار { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3].

أحمده سبحانه على نعمائه، وأشكره على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العالم بالجهر وما يخفى، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله خير الورى." data-share-imageurl="">