الحذر من مغبة الذنوب

الحمد لله اللطيف الخبير، العالم بالظاهر وما يكنه الضمير، له الخلق والأمر، وهو على كل شيء قدير، أحمده سبحانه وأشكره على فضله الكبير، وإحسانه الغزير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الهادي البشير . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في السر والعلانية، واحذروا من سطوته وعقابه، وتعرضوا لنفحات جوده وإحسانه، فإنه سبحانه جواد كريم، وإن أخذه أليم شديد .

إن الله بعث رسله، وأنزل كتبه، وبين للناس طريق الخير ليسلكوه، وبين لهم طريق الشر ليجتنبوه، فمن أطاع الله ورسوله حصلت له سعادة الدنيا والآخرة، ومن خالف أمره وعصاه، فإن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وربما عاجله بعقوبة الدنيا قبل الآخرة، كما قص الله علينا في كتابه العزيز عن الأمم السابقة وبين لنا ماذا حل بهم لما عصوه وخالفوا أمره وعصوا رسله، فقال جل شأنه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] .

وإن ما ينزل بالناس من المصائب والمحن التي هي دون العذاب الأكبر لهو إنذار وتخويف لينيبوا إلى ربهم، ويقلعوا عما هم عليه من الظلم والغفلة عن الله والتمادي في الذنوب والمعاصي .

وإن الناس عند حلول المصائب بهم ينقسمون إلى قسمين: قسم يعلم أن هذا من عند الله وبقضائه وقدره، ولكن سببه الذنوب والمعاصي والإعراض عن الله سبحانه ويتذكرون قوله سبحانه:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، فيرجعون إلى ربهم ويجأرون إليه، ويتضرعون له، فتكون المصائب في حقهم خيرًا ينالون بها القرب من الله، وتكفير السيئات، ورفع الدرجات، ويحصل لهم ثواب الصابرين فيزدادون من الله قربًا، ويقوى إيمانهم، ويهدي الله بسببها قلوبهم كما قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:11].

وقسم من الناس أعاذنا الله من أحوالهم يتسخطون من قضاء الله وقدره، ويغفلون عن أعمالهم السيئة، ولا يتذكرون، ولا يتعظون، فيزدادون من الله بعدًا، وتقسوا قلوبهم، ويزدادوا ضلالًا إلى ضلالهم، فيفوتهم الأجر العظيم، والثواب الجزيل، فتكون مصيبتهم بالتسخط، وعدم الرضا والصبر أعظم مما حل بهم من المصائب،ولهذا يقول سبحانه في صفة أولئك:{ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}[المؤمنون:76].

عباد الله: إن ما يبتلي الله به عباده في هذه الدنيا من المصائب إنما هو تذكير وموعظة، يخوفهم بها لينيبوا إليه، ويقلعوا عما هم عليه، من الإعراض عن الله، وعن طاعته، ومقارفة كبائر الذنوب من القتل، والظلم، والعدوان، وارتكاب الفواحش .

وإننا في زمان طغت فيه المادة، وكثر فيه الفساد، وطغى كثير من الناس وعتوا عن أمر ربهم، وبارزوا الله بالمعاصي، وأعرضوا عن تحكيم كتاب ربهم، وسنة نبيهم، ولهذا كثر الشر، وتسلط علينا الأعداء، وكثرت المحن والكوارث، فقل بلد من البلاد وإلا وفيه محن وقلاقل، ففي بعضها زلزال مدمر، وفي بعضها قتال مستمر، شمل الأطفال والشيوخ والنساء والرجال، وفي بعضها شجار ونزاع وسفك للدماء، وتسلط من كثير من الرؤساء على شعوبهم، وإذلالهم، وإقحامهم في الفتن والحروب، يثيرون الفتن، ويقتلون، ويشردون، ويضيقون عليهم معايشهم، ويعرضونهم للحروب المدمرة، وكل ذلك لا مبرر له إلا محبتهم للشر والفساد والبغي والعناد ؛ لأنهم نبذوا كتاب الله وراءهم ظهريًا، ونسوا عقاب الله وعذابه، أو أنهم لا يؤمنون بذلك، ومهما تكبر من تكبر، أو تجبر من تجبر، فإن ربك لبالمرصاد
{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ }[إبراهيم:42].

وإن كل ما يحصل من هذه الأمور مواعظ وعبر وتذكير، فيجب علينا العبرة والاتعاظ، فالسعيد من راقب ربه، واتعظ بما يجري على غيره في سائر الأيام والأمم .

واحذروا عباد الله أن يكون حظكم من ذلك الشماتة بالغير، فقد حذر r من الشماتة، وأخبر أن من تشمت بغيره يوشك أن يحصل له ما حصل على من تشمت به، ففي حديث واثلة بن الأسقع t قال: قال رسول الله r: « لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك » ([1]).

وعليكم بمراقبة الله عز وجل، والخوف من الذنوب، فإن عواقب الذنوب وخيمة، والزموا عباد الله طاعة ربكم، وأكثروا من شكره على نعمه الظاهرة والباطنة، ومن أهمها نعمة الإسلام والأمن، ونعمه سبحانه لا تحصى كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}[إبراهيم:34].

واعلموا عباد الله أن الشكر باللسان وحده لا يكفي، بل لا بد مع ذلك من الشكر بالقلب والعمل، فشكر القلب: الاعتراف لله سبحانه بأنه المنعم الحقيقي، والمتفضل على عباده، بجميع النعم كما قال سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النحل:53] أما الشكر بالعمل فهو امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، ولزوم طاعته، والبعد عن معصيته، كما قال عز وجل: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13].

وإن الإعراض عن طاعة الله، وعن شكره، سبب لزوال النعم، وحلول النقم، وقد بين سبحانه عاقبة كفران النعمة بقوله سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[النحل:112].

فاتقوا الله عباد الله، وأقبلوا على الله بقلوب ملؤها الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، والمحبة والاعتراف بما له سبحانه من الفضل والإحسان،{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }[الذاريات:55].

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله ذي الفضل والإحسان، أحمده سبحانه وأشكره على آلائه الجسام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله . اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان .

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حق التقوى، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، وعظموا أوامر ربكم، وقوموا بأدائها على وجهها . واحذروا مخالفة أمره، وارتكاب نهيه، واشكروه سبحانه على نعمه، واصرفوها بطاعته، واحذروا صرف نعمة الله فيما يسخط الله فإنه سبب لزوالها{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم:7] وإن كفران النعمة من صفات المتكبرين، ومن علامات الطاغين{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } [العلق:6-7] .

وإن شكر النعم من سنن المرسلين، ودأب الصالحين، وصفات أهل الإيمان والمتقين . يقول سبحانه في صفة خليل الرحمن إبراهيم u:{شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }[النحل:121] ويقول سبحانه عن نوح u:{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}[الإسراء:3] ويقول عن سليمان u:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ }[النمل:19] وقد قال نبينا r: «أفلا أكون عبدًا شكورا» ([2]). فاتقوا الله عباد الله، واسألوه سبحانه أن يعينكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته .

 

 

 

 

([1])    رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم (2506) .

([2])    رواه البخاري في كتاب الجمعة، رقم (1130) .

المرفقالحجم
Microsoft Office document icon 5الحذر من مغبة الذنوب.doc78.5 كيلوبايت
الحمد لله اللطيف الخبير، العالم بالظاهر وما يكنه الضمير، له الخلق والأمر، وهو على كل شيء قدير، أحمده سبحانه وأشكره على فضله الكبير، وإحسانه الغزير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الهادي البشير . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا ." data-share-imageurl="">