التحذير من الترف

الحمد الله المنعم المتفضل، يعطي ويمنع، ويعز ويذل{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]: { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الأنبياء: 23].

أحمده سبحانه على نعمه الغزار، وأشكره على جوده المدرار، وأسأله المزيد من فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، اللهم صِّل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه.

أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله-تعالى-وأطيعوه، وراقبوه في سركم وعلنكم، واشكروه على نعمه التي لا تحصى، اشكروه بقلوبكم وأعمالكم وألسنتكم، إن الشكر لا يكون باللسان فقط، إنما هو بامتثال المأمور، امتثال ما أمر الله به، والعمل بطاعته، والبعد عن معصيته، إن الله ينعم على عباده ليشكروه، ويوالي عليهم فضله وإحسانه ليعبدوه، فإذا قام العبد بعبادة الله، وأدى شكره زاده من النعم، ودفع عنه أسباب النقم، وإن هو كفر بنعم الله أذاقه أليم عقابه، وألبسه لباس الجوع والخوف جزاءً لعمله:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [فصلت: 46].

عباد الله: إن النعم إذا توالت على من غلب عليه الشقاء، ولم يكن محلا للنعمة بأن كان لئيم الطبع، كفورا للنعم، ذا تكبُّر وتجبّر، فإن النعمة قد تكون وبالا عليه، تكون سببا للطغيان، ومركبا للفساد، وسلما لتناول الشهوات المحرمة، يتنعم فيها بالترف المذموم، ويستعمل بها المنكرات، ويتعدى حدود الله، ولا يحترم أوامر ربه، يُعرض عن خالقه ورازقه، ويرى أنه استغنى عنه بماله وصحته وقوته، فبغى وطغى وآثر الحياة الدنيا.

إن وفرة المال، ونشوة الشباب، وسكرة الهوى من أسباب الإعراض عن الله، والدار الآخرة، إن هذه الأمور تحمل صاحبها على الترف المذموم، الذي ذمه الله في كتابه في عدة مواضع من القرآن كما قال سبحانه: { وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} [هود: 116]. وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [سبأ: 34].

إن المترفين هم الذين يقومون بمصادمة أوامر الله، والعداوة لرسله، والفساد في الأرض، واتباع الهوى، إن العبد إذا تمادى به الترف حمله على الكسل عن العبادة، حمله على عدم الالتزام بالأوامر الشرعية، حمله على استثقال الأوامر الإلهية، حمله على التكبر والتجبر على الله وعلى عباد الله، إن الترف لم يستول على أمة إلا استحوذ عليها الشيطان، واتبعت طريق البغي والفساد، وبعدت عن سبيل الهدى والرشاد، كم كان الترف سببا لهلاك الأنفس، وفساد الديار، وحلول العذاب. يقول سبحانه: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 11 - 13].

إن المترفين الذين ذم الله صنعهم، وحذر من أفعالهم، وأبان لنا سوء عاقبتهم، هم الذين ساقهم الترف إلى التنكر لنعم الله، والتجبر على خالقهم وبارئهم، فخالفوا أوامره، وبارزوه بالمعاصي، وأنفقوا أموالهم في سبيل اللهو واتباع الهوى، أسرفوا في النفقات، وارتكبوا المحظورات، وحالفوا الشهوات، وثقلت عليهم العبادات، ولم يتصفوا بصفات المؤمنين، لم يكونوا من الذين يتواصون بالحق، ويتواصون بالصبر، بل تباعدوا عن الصبر، فلم يصطبروا على أداء الفرائض، ولم يصبّروا نفوسهم عن ارتكاب المحرمات، ولم يصبروا على ما ينالهم من قضاء الله وقدره.

إن المترف إن أغناه الله كفر بنعم الله، وإن ابتلاه تأفف من قضاء الله، فلم يلتفت إلى الله في حال غناه، ولا في حال فقره، فهو غافل ساه عن ذكر الله، فلا يزال ساخطا، ومسخوطا عليه: { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67]. { نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [الحشر: 19].

إن كثيرًا ممن كثرت لديهم النعمة، استعملوها في غير ما أمروا به، استعملوها في المعاصي، استعملوها في الإسراف والمباهاة والخيلاء، استعملوها فيما يسخط الله من شرب الخمور ومواثبة الفجور، استعملوها في تعدي حدود الله وتعاطي الربا والقمار واستحلال ما حرم الله، إن الترف ورد ذمه في القرآن الكريم في عدة آيات من كتاب الله؛تحذيرا لنا من سوء عاقبته، وليس المراد بالترف التنعم بالطيبات التي أوجدها الله لعباده، وأباحها لهم وأنعم بها عليهم، ولكن المراد بالترف المذموم الذي يحمل صاحبه على التنكر لنعم الله، وعدم القيام بما أوجب الله، وارتكاب المحرمات، وإلا فقد قال الله U : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون: 51].  

فالمحذور والمحظور التقلب بنعم الله مع عدم القيام بما فرض الله من الأعمال التي أوجبها الله شكرا لهذه النعم، كما قال سبحانه: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ: 13].

وإن مما يؤسف له أن كثيرا من الناس حملهم الترف على عدم القيام بالواجبات الشرعية، وعدم الكف عن المحرمات، وعدم التقيد بما أباحه الله لهم، فلم يلتزموا بالتعاليم الإسلامية ولا الآداب الشرعية، وأهملوا أنفسهم، ومن تحت أيديهم فارتكبوا المناهي، وغرقوا في الملاهي، وضعفت فيهم الغيرة، وقل فيهم الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر:{ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } [الإسراء: 16].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين، من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

المرفقالحجم
Microsoft Office document icon 15التحذير من الترف.doc75 كيلوبايت
الحمد الله المنعم المتفضل، يعطي ويمنع، ويعز ويذل{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]: { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الأنبياء: 23].

أحمده سبحانه على نعمه الغزار، وأشكره على جوده المدرار، وأسأله المزيد من فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، اللهم صِّل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه." data-share-imageurl="">