الإنسان مسير أم مخير

القسم
الفرع
العنوان
رقم الفتوى
العقيدة
الإيمان
الإنسان مسير أم مخير
19
السؤال: 

هل الإنسان مسير أو مخير ؟

الاجابة: 

دلت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على أن للعبد اختيار ومشيئة وإرادة وعمل ينسب إليه ، وقد بعث الله عز وجل رسله مبشرين ومنذرين وداعين إلى الله ومرشدين ، وقد وهب الله جل وعلا العبد عقلًا ليميز بين الحق والباطل، والخير والشر، والنفع والضر،ولذا يكون مكلفًا إذا بلغ وعقل،فمن اختار الحق والخير كان من أهل الفلاح والنجاة ، ومن اختار الباطل والشر كان من أهل الزيغ والضلال،وكان لكل منهما من الجزاء بحسب عمله.

ومن الأدلة على ذلك :

قوله تعالى : ( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ) [آل عمران :152] ، وقال جل شأنه : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) [الزلزلة: 7-8]، وقال : ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) [الكهف: 29] ، وقال : ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) [الشمس:8-10] ، وقال تبارك وتعالى : ( أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) [البلد:8-10] ، وقال سبحانه : ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) [النساء:123] ، وقال : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [النحل:97] ، وقال تعالى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ) [الإسراء:18-19] .

وقد جاءت الشريعة بالأوامر الشرعية ؛ ليثاب المطيع على طاعته ، ويجازى العاصي على معصيته ، واختيار العبد وعمله لا يخرج عن مشيئة الله تعالى وقدره سبحانه قال تعالى : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ) [الأنعام:112] ، وقال سبحانه : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) [التكوير:29] ، فلا تخرج إرادة العبد عما قدره الله جل وعلا وقضى به سبحانه ، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن , وفي الحديث القدسي : « واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف» رواه أحمد والترمذي وحسنه([1]) .

فمن استقام من عباد الله والتزم طاعته فذلك بمشيئة الله تعالى وإرادته سبحانه ، كما قال جل وعلا (  لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) [التكوير:28-29]، وقال جل شأنه: ( فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ، وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ  ) [المدثر:55-56]، وقال تعالى:( فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ) [الإنسان:  29-30] .

ومن ضل من عباد الله،وعصى أوامر ربه، وأشرك به سبحانه، فذلك بمشيئة الله سبحانه وقدره ، كما قال تعالى : ( فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) [فاطر:8] ، وقال جل شأنه : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) [يونس:99] ، وقال سبحانه : ( وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ )  [النحل:9] ، وقال: (  وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ) [الأنعام:112] .

فمن يرد الله هدايته فإنه سبحانه ييسر له عمل المهتدين وسبيلهم ، فيكون من أهل الجنة ، ومن يرد أن يضله ييسر له عمل الضالين ، فيكون من أهل النار ، ففي حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي e قال : « ما منكم من أحد ، ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار ، وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة ، قال : فقال رجل : يا رسول الله ، أفلا نمكث على كتابنا ، وندع العمل؟ فقال : من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة ، فقال: اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ، ثم قرأ: ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى  ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى  ، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ،  فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل: 5-10] » رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم([2]). والله جل وعلا يقول : ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) [الأنعام:125].

وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما سئل عن هذه الآية ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) [الأعراف: 172] قال : سمعت رسول الله e سئل عنها ، فقال رسول الله e : « إن الله عز وجل خلق آدم ، ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية ، فقال: خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ، فقال رجل : يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله e : إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار ، فيدخله به النار » رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه([3]) .

وليعلم العبد أن اختياره لا يخرج عما قدره الله له ، فقد قَدَّر الله سبحانه ما يجري من الإنسان قبل أن يخلقه ، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي e قال : « كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال: وعرشه على الماء »([4]). وقال ربنا جل وعلا: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) [القمر:49] ، وقال ســــبحانه : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) [الحديد:22] ، وثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه  عن النبي e أنه قال : « إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله ملكا ، فيؤمر بأربع كلمات ، ويقال له: اكتب عمله ، ورزقه ، وأجله ، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح ، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع ، فيسبق عليه كتابه ، فيعمل بعمل أهل النار ، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة »([5]) .

ولذا كان من أركان الإيمان أن يؤمن العبد بالقدر خيره وشره، وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لابنه : يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، سمعت رسول الله e يقول : « إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فجرى بما هو كائن إلى الأبد » رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه([6]) . وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله e قال : «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» رواه مسلم([7]) . فالعبد له اختيار وإرادة ، واختياره لا يخرج عن قدر الله تعالى وتسييره له .

وعلى العبد أن يؤمن بأن الله جل وعلا بيده ملكوت كل شيء، وأنه سبحانه خالق كل شيء ، وإليه يرجع الأمر كله ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وكل شيء بقدر ، لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن .

وعلى المسلم أن يعمل الأسباب الجالبة للخير ، ويجتنب الأسباب الموصلة للشر ، وإذا نزلت به نازلة أو مصيبة فليصبر ، ولا يتحسر ، ولا يقل : لو فعلت كذا لكان كذا ، ولو لم أفعل كذا لم يكن كذا ، بل ليقل : قدر الله وما شاء فعل ، فما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه , وقد قال e : « احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان » رواه مسلم([8]) . والله جل وعلا يقول : ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) [التوبة:51].

ومن رحمة الله بعباده أن العبد إذا زال اختياره بأن كان مجنونًا أو مكرهًا ونحو ذلك ، فإنه لا يؤاخذ ولا يلحقه إثم بسبب ذلك .

وهذا هو ما دلت عليه الأدلة الشرعية في هذه المسألة ، وهو الذي كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم ، وقد ضل في هذا الباب طوائف فقال بعضهم :

إن الإنسان مجبر في جميع أفعاله ، ولا إرادة له في ما يفعله ، وأفعاله كلها من الله تعالى ، سواء كانت خيرًا أو شرًا ، فالعبد لا قدرة له ولا قصد ولا اختيار ، وهو قول الجبرية .

وقد احتجوا بالقدر على إبطال الأمر والنهي ، فهم من جنس القائلين ( لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ) [الأنعام: 148] .

وفرقة أخرى هي القدرية قالوا : إن الإنسان يخلق أفعاله ، ونفوا أن يكون الله تعالى خالقًا لأفعال عباده ، فأثبتوا خالقًا مستقلا بالخلق والأمر دونه ، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا  .

وأهل السنة والجماعة قالوا : إن جميع أفعال العباد من طاعة ومعصية ، واقعة بقضاء الله وقدره ، وأفعال العباد خيرها وشرها خلقها الله تعالى ، كما قال سبحانه : ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) [الصافات: 96] و(ما) في الآية بمعنى الذي ، غير أن الإنسان ليس مجبورًا على أفعاله ، بل يفعلها باختياره ، ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) [الكهف:29] . فهذا ما ظهر لنا في هذه المسألة . والله أعلم .

 

([1]) مسند أحمد ، رقم (2763) ، والترمذي ، رقم (2516) .

([2]) صحيح البخاري ، رقم (1362) ؛ صحيح مسلم ، رقم (2647) .

([3]) مسند أحمد ، رقم (311) ؛ أبو داود ، رقم (4703) ؛ والترمذي ، رقم (3075) .

([4]) صحيح مسلم ، رقم (2653) .

([5]) صحيح البخاري ، رقم (3208) ؛ صحيح مسلم ، رقم (2643) .

([6]) مسند أحمد ، رقم (22705) ؛ وأبو داود ، رقم (4700) ؛ والترمذي ، رقم (3319) .

([7]) صحيح مسلم ، رقم (5893) .

([8]) صحيح مسلم ، رقم (2664) .

دلت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على أن للعبد اختيار ومشيئة وإرادة وعمل ينسب إليه ، وقد بعث الله عز وجل رسله مبشرين ومنذرين وداعين إلى الله ومرشدين ، وقد وهب الله جل وعلا العبد عقلًا ليميز بين الحق والباطل، والخير والشر، والنفع والضر،ولذا يكون مكلفًا إذا بلغ وعقل،فمن اختار الحق والخير كان من أهل الفلاح والنجاة ، ومن اختار الباطل والشر كان من أهل الزيغ والضلال،وكان لكل منهما من الجزاء بحسب عمله." data-share-imageurl="">