تفسير قوله تعالى : ( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ) الآيات

القسم
الفرع
العنوان
رقم الفتوى
التفسير وعلوم القرآن
النحل
تفسير قوله تعالى : ( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ) الآيات
1430
الاجابة: 

 

135 - هذه الآية الكريمة ذكرها الله سبحانه في سورة النحل، هذه السورة التي تسمى سورة النعم لما ذكر الله سبحانه فيها من تعداد النعم التي أنعم بها على عباده ومنها قوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) [النحل : 8] ، يفهم منها الإشارة إلى ما خلق الله وأوجد لعباده في هذه الأزمنة من المراكب في الجو والبر والبحر مما هو معد للركوب وحمل الأثقال والزينة .

فإنه سبحانه وتعالى  لما ذكر الخيل والبغال والحمير التي خلقها لأجل الركوب وللزينة عقبـها بقـوله ( وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) أي لا تعلمون مما علم الله أنه سيحدثه ويوجده بعد هذا الزمان الذي أنزلت فيه هذه الآية، وهو عصر النبوة من الأشياء التي يركبها الخلق في برهم وبحرهم وفي الجو ، ويستعملونها في الركوب والحمل والزينة .

قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله : « إن الله لم يذكرها بأعيانها ؛ لأن الله تعالى لم يذكر في كتابه إلاّ ما يعرفه العباد أو يعرفون نظيره وأما ما ليس معروفًا ولا له نظير في زمانهم فإنه لو ذكر لم يعرفوه ولم يفهموا المراد منه فذكر سبحانه أصلًا جامعًا ، يدخل فيه ما يعلمون وما لا يعلمون كما ذكر سبحانه وتعالى  نعيم الجنة وسمى منه ما نعلم ونشاهد نظيره ، كالنخيل والأعناب والرمان ، وأجمل ما لا نعرف له نظيرًا في قوله سبحانه وتعالى : (فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ) [الرحمن:52] ، فكذلك هنا ذكر ما نعرفه من المراكب كالخيل والبغال والحمير والإبل والسفن ، وأجمل الباقي في قوله سبحانه وتعالى :  ( وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) » انتهى كلامه.

والله سبحانه وتعالى  لما أشار بهذه الآية إلى الصنائع التي ستحدث بإذنه وتسخيره وتهيئة أسبابها وما أعطاهم الله من المعرفة لأسباب هذه الأمور وأنه ستكون بواسطة أيدي بعض العباد من خلقه الذين خلقهم وأعطاهم العقول والذكاء ليدركوا دقائق هذه الأمور التي غاية الأمر أنهم ألفوها وركبوا بعضها مع بعض بهداية الله لهم لهذه الدقائق بَيَّن سبحانه وتعالى بعد هذه الآية عظمة مخلوقاته التي خلقها بقوله : ( كُنْ ) بدون واسطة أحد مما هو أعظم وأعظم من هذه الصناعات ولا هناك نسبة بينهما ولكن لما كان الإنسان يشاهدها من حيث عرف الدنيا لم تقع منه موقع الاستغراب لكثرة المشاهدة لها ولو أمعن النظر فيها وتأملها وتأمل دقة صنع الله الباري سبحانه وتعالى  من تكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل ودقة سير هذه النجوم والشمس والقمر وعظيم خلق السموات والأرض وهذه الجبال الشوامخ العظيمة وهذه البحار المتلاطمة الأمواج وما فيها من عظيم خلقه سبحانه وتعالى فلو تأملها العبد حق التأمل لكان له شأن في قوة إيمانه وتعظيم خالقها.

ولذلك كثيرا ما يرد في القرآن الكريم الحث على التفكر في مخلوقات الله كما قال سبحانه وتعالى (  إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ) [آل عمران:190].

وكما قال سبحانه وتعالى ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) [البقرة:164] .

بل لو تأمل الإنسان في خلق نفسه حق التأمل لرأى الأمر العجاب كما قال سبحانه وتعالى: ( وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) [الذاريات :20-21].

فإن الله سبحانه وتعالى  خلق الإنسان وجعل فيه ثلاث مائة وستين عظما في غاية ما يكون من اللطافة والإتقان وإمكان إتيان كل عضو لما خلق له بكل سهولة وفي غاية الإبداع والتناسق والجمال ، كما قال سبحانه وتعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ   ) [التين:4].

فلما أشار سبحانه وتعالى  بهذه الآية وهي قوله: ( وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) إلى وجود هذه الصنائع من طائرات جوية ، ومراكب بحرية ، وسيارات أرضية ، خلقها سبحانه وتعالى  وسخرها لعباده بواسطة إلهامه لبعض خلقه في صنعها ، والله سبحانه وتعالى  هو الذي خلق كل صانع وصنعته ، وكل عامل وعمله ، كما قال عز وجل : ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ )[الصافات:96] نبه سبحانه وتعالى  إلى أن هذه الصنائع ليست غريبة بالنسبة إلى مخلوقاته سبحانه وتعالى  .

ولو تأملتم في عظيم صنع الله الموجود بين أيديكم لتلاشى هذا الاستغراب في جانبها فلهذا قال بعد هذه الآية: ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ،   يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) [النحل:9-11].

فلو تفكرتم حق التفكر بهذه الأشياء لعلمتم كمال قدرة الله الذي أنزل هذا الماء من السحاب الرقيق اللطيف ، وجعل في هذا الماء الغزير العذب الصالح لكل شيء من الشرب وإنبات النبات فتشربون ، وتشرب مواشيكم ، وتسقون حرثكم ، فيخرج الله به من أنواع الثمار الكثيرة ، والنعم الغزيرة ما ليس في استطاعة أحد غيره سبحانه وتعالى على إيجاد شيء منه ، كما قال عز وجل : (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ  ) [الواقعة :62-63].

وقال سبحانه: ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ  ) [الواقعة:68-70].

ثم قال عز وجل في سورة النحل أيضًا: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ  ) [النحل:12] يخبر الله سبحانه أنه سخر هذه الأشياء لمنافع عباده ومصالحهم بحيث لا يستغنون عنها فسخر لهم الليل سكنًا ، والنهار معاشًا ، كما قال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ) [النبأ:9-11] .

وسخر سبحانه الشمس والقمر ضياء للناس ، ونفعًا لهم ، وسخر لهم النجوم زينة وعلامات يهتدون بها ، ورجومًا للشياطين؛ ولذلك قال سبحانه : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) يتدبرون بها ويتفكرون .

ثم قال سبحانه : ( وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ) [النحل:13] أي ليتذكروا بذلك أن الله هو الذي خلق جميع هذه المخلوقات وليعرفوا عظمته وكمال قدرته فينيبوا ويخبتوا إلى ربهم وليعلموا أنه هو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له وأن غيره لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرًا فكيف يملكه لغيره .

وقوله سبحانه : ( وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ )كقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ) [البقرة:29] ، وجاء في الحديث القدسي « ابن آدم خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي» ثم قال سبحانه بعد ذلك : ( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﭜ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ  )[النحل:14-16] يذكر سبحانه عباده بهذه النعم ويعددها عليهم لعلهم يتذكرون نعمه فيقومون بشكرها ويعبدونه حق عبادته فتحصل لهم السعادتان دنيا وأخرى فذكر تسخيره سبحانه للبحر وتهيئته لعباده وما جعل فيه من المنافع المتنوعة فمن هذه المنافع السمك والحوت الذي تصطادونه وتأكلون منه لحمًا طريا ومنها استخراجكم منه حلية تتحلون وتتجملون بها فتزيدكم جمالًا وحسنًا إلى حسنكم وجمالكم الذي صوركم الله عليه ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ   ) [التين :4] .

ومن منافع هذا البحر ما سخره الله لكم من المراكب والسفن التي هيأها لكم ، وهداكم إلى صنعها ، تجوب بكم هذه البحار العظيم الرهيبة ، فتمخر البحر مخرًا بمقدمها ، فتصلكم من قارة إلى قارة أخرى بسهولة وسرعة ، حاملة معكم الشيء الكثير من الأثاث والأمتعة والبضائع وأصناف التجارات التي تطلبون بها الأرزاق والزيادة من فضل الله ، وحصول نفع بعضكم لبعض .

ثم ختم سبحانه هذه النعم بقوله ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي لعلكم تشكرون الله ربكم وخالقكم الذي سخر لكم هذه الأشياء وهيأها لكم ، فتتحدثون بها وتثنون عليه سبحانه ، وتقومون بما تستطيعونه من شكرها ، فله الحمد سبحانه والشكر والثناء ، وهو أهل الحمد فسبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين .

ثم لما عدد سبحانه نعمه بإنزال المطر وتسخير الشمس والقمر والنجوم وما يترتب على ذلك من المنافع العظيمة والمصالح الجسيمة وذكر البحر وفوائده المتنوعة وما سخره فيه لعباده ذكرهم بخلق الجبال والأنهار والطرق التي سهلها في الأرض وبين تلك الجبال الشوامخ التي تصلهم من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى آخر وجعل فيها علامات بينات يهتدون بها ، كما سخر لهم النجوم أيضًا ليهتدوا بها في ظلمـات البر والبـحر ، فقال سبحانه : ( وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ  )[النحل:15] ، والرواسي هي الجبال العظام ، لئلا تميد بكم الأرض ، فتضطرب بكم ، فلا تتمكنون من إكمال مصالحكم ولا يقر لكم قرار ، بل ثبتها وأرسى بها هذه الجبال ، لتتمكنوا من البناء عليها ، والسير فيها ، وغرس الأشجار وحرث الزروع ، وسخر لكم فيها الأنهار الجارية بالماء العذب الزلال ، يسوقها من أرض بعيدة إلى أقاليم عديدة  تمر بها وكل ينتفع بها تسقيهم وتسقي مواشيهم وأشجارهم وزروعهم ويتمتعون بأصناف النعم من الفواكه والأطعمة واللحوم والألبان بسبب هذه الأنهار الجارية .

ولما ذكر سبحانه هذه النعم قال بعد ذلك: ( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ )[النحل:17] فذكرهم سبحانه وتعالى  بأن من خلق هذه الأشياء وهذه المنافع التي لا يستطيع أحد أن يأتي بشيء منها مهما كان ، ولا بأصغر جزء من أجزائها أنه الله وحده فهل يساوي من يخلق هذه الأشياء وغيرها بمن لا يخلق شيئًا مهما قل ومهما كان في صغره وحقارته ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) [الحج:73] .

ثم حثهم سبحانه على التفكر والتذكر وأن يستعملوا عقولهم وذكاءهم الذي أعطاهم الله إياها فقال: ( أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) فتعرفون أن المتفرد بالخلق هو الله وأنه أحق بالعبادة وحده سبحانه من كل أحد سواه فكما أنه سبحانه واحد في خلقه وتدبيره وتسخيره هذه الأشياء العظيمة وهذه المنافع الجسيمة فإنه سبحانه واحد في ألوهيته وتوحيده وعبادته ، وكما أنه أنشأكم وأنشأ غيركم بدون مشارك له فلا تجعلوا له أندادًا في عبادته ، فإن تلك الأنداد التي جعلتموها معه هي من مخلوقاته ، فهل يستوي الخالق والمخلوق، بل اخلصوا له العبادة، كما قال سبحانه لنبيه الكريم r: ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) [الزمر:11-12] ( قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ) [الزمر:14] ، ثم قال سبحانه وتعالى: ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ) [النحل:18] ، أي لا تستطيعوا أن تعدوها عدا ، فكيف تستطيعون القيام بشكرها ، ولكنه سبحانه غفور رحيم ، يرضى من عباده بالشيء اليسير ، ويتجاوز عن الشيء الكثير ، فيغفر لهم ذنوبهم ، ويستر عيوبهم ، ويرحمهم برحمته الواسعة التي وسعت كل شيء ، فإذا سلم العبد من الشرك بالله ، فقد تعرض لرحمة ربه ومغفرته ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) [النساء:48] .

وخلاصة ما تقدم أن الله نبه بقوله: ( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) [النحل : 8] إلى وجود هذه الأشياء الحديثة من المراكب الجوية والبرية والبحرية .

وفي قوله: ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ) [النحل:9] ، بهذه الآية إشارة إلى أن الهداية بيد الله ، فلا تغتروا بأهل هذه الصنائع ، وتقدمهم ، وتعجبون بهم ، وتقولون لِمَ لم يعرفوا حقيقة الإسلام ، فتحصل لهم سعادة الدنيا والدين .

ثم قال سبحانه وتعالى: ( وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) [النحل:9]، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

وفي هذه الآيات التي ساقها سبحانه ، وبين فيها إنزال المطر من السماء شرابا لكم ولأنعامكم، ومرعى لمواشيكم، وينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات، وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، كلها مسخرة منه سبحانه وتعالى لكم ، وجميع ما ذرأ في الأرض على اختلاف ألوانه ، وتسخيره البحر لكم ، تأكلون من لحوم سمكه ، وتلبسون من حليه ، وتركبون في هذه المراكب لتجاراتكم ، وطلب أرزاقكم ، وهذه الأرض التي بسطها لكم ، وأرساها بالجبال ؛ لئلا تميد بكم ، وهذه الأنهار الجارية ، وهذه السبل والطرق بين أوديتها وجبالها ، فإنكم إذا تأملتم هذه المخلوقات العظيمة ، علمتم أن هذه الصنائع التي أحدثها الله لكم في هذه الأزمنة ، على أيدي بعض خلقه ، بما أعطاهم من الأفكار ، فهو الذي خلقهم وما يعملون ، كما قال سبحانه : ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) [الصافات:96] ، ولكن هذه الصنائع كلها تتلاشى ، وتتضاءل إذا نسبتها إلى مخلوقات الله العظيمة ، التي بينها ، وساقها بعد قوله : ( وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) [النحل:8] فلا تغتروا بأهل هذه العلوم ، وتعجبوا بهم ، وتتبعوا لهم في الكفر بالله ، وعدم القيام بشكره ، فإن الله هداكم بهذا القرآن العظيم ، وهذا النبي الكريم r ، فاعرفوا نعم الله عليكم ، وقوموا بأداء عبادته وطاعته ، وتذكروا قوله : ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) [النحل:18] ، والله أعلم .

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

 

135 - هذه الآية الكريمة ذكرها الله سبحانه في سورة النحل، هذه السورة التي تسمى سورة النعم لما ذكر الله سبحانه فيها من تعداد النعم التي أنعم بها على عباده ومنها قوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) [النحل : 8] ، يفهم منها الإشارة إلى ما خلق الله وأوجد لعباده في هذه الأزمنة من المراكب في الجو والبر والبحر مما هو معد للركوب وحمل الأثقال والزينة ." data-share-imageurl="">