الحمد لله الذي بدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا، وجعل في العلاقة الزوجية مودة ورحمة وبرًا، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه التي تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحكيم العليم{خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}[الروم:21] .
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، الهادي إلى الطريق القويم، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . واعملوا رحمكم الله بأوامره، واجتنبوا نواهيه، وراقبوه في السر والعلن .
يقول الحق سبحانه:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء:1].
ففي هذه الآية الكريمة يأمرنا الله سبحانه بتقواه، ويحثنا على التفكر والتفطن لنعمه، وحكمه، التي شرعها وأنعم بها على عباده .
عباد الله: إن العلاقة الحسنة بين الزوجين سبب لسعادتهما، ولحصول المودة والرحمة بينهما، وانتشار الذرية الصالحة منهما . بالزوجية يتم التواصل والتراحم . وبها تحصل سعادة الزوجين، وبها تعمر البيوت، وتتوالى الأرزاق، ويحصل الوئام والمحبة، إذا كانت العلاقة الزوجية مبنية على حسن المعاشرة، والألفة والمودة، ومعرفة كل من الزوجين لحقوق الآخر، وقيام كل واحد من الزوجين بواجباته نحو الآخر على أساس من العدل والاحترام والإنصاف والتقدير، وحسن المعاشرة، والتغاضي عن بعض الأمور التي لا تخل بدين ولا مروءة، والبعد عن الظنون السيئة، والاتهامات الوهمية، وإطلاق اللسان بالكلمات النابية، والعبارات المؤذية، وعدم الصبر والتحمل، والمجاملة، إنه لا سعادة لأي أسرة ما لم يتصف كل منهم بحسن الخلق والصبر والتحمل .
إن بعضًا من الناس عندما يدخل منزله، ويجلس بين أسرته، يعتقد أنه الآمر الناهي بكل شيء، المطاع بما لا يستطاع، ويرى الحق له وحده، ولا حق لأحد معه، كل كلامه عنده هو الصواب، وجميع أفكاره وتصرفاته على السداد، يرفع صوته بالزجر والعتاب، ويهين من حوله بالظن والارتياب، ويردد كلمات التأنيب والسباب، يشتم هذا، ويضرب هذا، ويتهم هذا، فهم معه في عناء وشقاء.
ومع هذا كله تجده يتأفف ويتبرم من صنيعهم على لا شيء، على أمر حقير، أو قليل من التقصير، وما يدري أنه السبب في ذلك كله، وأن كل ما حصل هو الذي أثاره، وهو الذي كون غباره، بسبب سوء خلقه، وقله حلمه، وكثرة غضبه، وعدم مراعاته لشعورهم، فأتعب نفسه وأشقى غيره، وربما تطاول بالسب والشتم وكثرة الأيمان، وربما أدى به شدة غضبه، وضعف صبره إلى التفوه بالطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله، وأحب شيء إلى الشيطان، فأفسد بذلك بيته، وفرق أسرته، وأشمت عدوه، وأقر عين حاسده، وأغاظ صديقه، ولو فتشت عن سبب هذا كله، لوجدته لا لشيء، ولا يوجب شيئًا، ولكن كل ذلك كان تنفيذًا لغضبه، وطاعة لشيطانه، واستجابة لنفسه الأمارة بالسوء .
أيها الأزواج: حسنوا أخلاقكم مع أزواجكم، وأسركم، وابتعدوا عن الغضب، وسوء الخلق .
أيتها المرأة: التي امتن الله عليها بالعزة والكرامة، والصيانة والعفة، ورزقها الله أولادًا، وجعلها مربية، وعميدة أسرة، حافظي على نعمتك بتحسين خلقك ومعاملتك لزوجك بالمعاملة الحسنة، كم من امرأة فقدت عزها وكرامتها بسبب سوء خلقها، وقلة صبرها، وضعف عزيمتها، ومحبتها للفخر والتطاول، وعدم شكرها لنعم الله، وعدم مراعاتها لحق زوجها، وعدم احترامها له ولقرابته، وربما ساء خلقها فتطاولت على زوجها بالكلام السيء من السب والشتم، والتعنيف والتعيير، والاتهام بالتقتير والتقصير، فيشتد غضبها بذلك وتطلب الطلاق من زوجها، وقد حرم الله ذلك بدون سبب شرعي، فارتكبت بذلك المحظور، وجلبت على نفسها وأولادها الحرمان والشرور، فحرمت أولادها العطف الأبوي، والتربية الحسنة، ثم تبقى هي في نكد من العيش، وفي حالة من البؤس، وإذا سألت عن السبب في ذلك لم تجده سوى تنفيذ للغضب، وطاعة للشيطان، وعدم ضبط للنفس، فكم من غضب ساعة، وعدم الصبر أوجب غم الدهر، وشتات الأمر، فاتق الله أيتها المسلمة، وحافظي على نعمتك، واحذري من سوء الخلق، وابتعدي عن الغضب، وخذي عبرة مما تسمعين من المشاكل الزوجية، والتشتيتات العائلية فالسعيد من وعظ بغيره .
أيها الأزواج والزوجات: ليحافظ كل منكم على حسن الصحبة، وليتدرع بالصبر والتحمل، لما قد يصدر من صاحبه، وليتصف بحسن الخلق والمعاشرة الحسنة، واستجلاب المودة، وإن رأى ما يكره من سوء خلق صاحبه أو شذوذ في معاملته فليقابل ذلك بالحلم والصبر، والكلمات الطيبة، والعبارات اللطيفة، حتى يهدأ قبيله، وينقطع قبله، ويعود إليه رشده وصوابه، فإنه متى قوبل باللطف واللين، لا بد أن يندم ويعتذر، ويعترف بالفضل لصاحبه، واعلموا أن لكل واحد من الزوجين حقوقًا على الآخر فيجب القيام بها على وجهها، وقد قال سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }[النساء:19]، وقال سبحانه:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ }[البقرة:228].
فليعرف كل واحد حق صاحبه، ويلتزم بالقيام به لتدوم المحبة والمودة، وتتم السعادة المنزلية، وتقوى الروابط الأسرية، والوشائج العائلية، فقد روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: « أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم » ([1]).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:34-36].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه الكريم، وبسنة سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .
أول الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الفضل والإحسان، والعطاء والامتنان، أحمده سبحانه وأشكره على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتخلقوا بأخلاق القرآن الكريم، وتأدبوا بآدابه، فإن الله أثنى على نبيه محمد r بحسن الخلق، فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }[القلم:4]، وقد كان r خلقه القرآن يتأدب بآدابه، ويعمل بأوامره، وينتهي عن نواهيه، فكان عليه الصلاة والسلام هو القمة في حسن الخلق، وهو الغاية في حسن الأدب، والسمت، والحلم، والصبر، فاقتدوا به، وسيروا على نهجه، تحصل لكم سعادة الدنيا والآخرة .
واعلموا أنه لا يتم حسن الخلق للعبد حتى يوطن نفسه على التغاضي، وعدم العتاب عن بعض الأمور، فإن نبينا r أرشدنا إلى ذلك، فقال r: «لا يفرك مؤمن مؤمنة -أي لا يبغض مؤمن مؤمنة- إن كره منها خلقًا رضي منها آخر» ([2])، فأمر بالإغضاء عن بعض ما فيها من العيوب، وأن يكون نظره إلى ما فيها من المحاسن والصفات الطيبة ويجعل هذا في مقابل هذا فبذلك تدوم الصحبة الزوجية وتتم العلاقة الطيبة والصفاء والوئام ويقل النزاع والخلاف والخصام .
وهذا الحديث قاعدة جليلة، ومنهج قويم ينبغي لكل أحد أن ينهجه، ويتصف به، مع كل أحد، مع زوجته، ومع والديه، وأولاده، وأصدقائه، وزملائه، وأقاربه، وجيرانه، ورؤسائه، ومرؤوسيه، فإذا رأى ما يكره من أحد منهم، فليتذكر محاسنه، وما فيه من خصال حميدة، فإذا فعل ذلك قل عتابه، ودامت الصحبة، ويكون قد اتصف بحسن الخلق الذي قال فيه r: « وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة الصائم القائم» ([3]).
([1]) رواه الترمذي في كتاب الرضاع، رقم (1162) .
([2]) رواه مسلم في كتاب الرضاع، رقم (1469) .
([3]) رواه الترمذي في كتاب البر والصلة، رقم (2003) .
المرفق | الحجم |
---|---|
3المعاملة الزوجية.doc | 77.5 كيلوبايت |