الحمد لله دائم الفضل والإحسان، ذي العطاء الواسع والامتنان، أحمده سبحانه على ما أنعم فأغنى وأقنى، وأشكره على آلائه التي تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المعبود، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صاحب المقام المحمود. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه.
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله-تعالى-واشكروه على ما أولاكم، وخولكم وحباكم، اشكروه باللسان والجنان، والعمل بالأركان، إن الله تفضل عليكم ورزقكم من الطيبات، وأغناكم عن الحاجة، وصان وجوهكم عن مذلة السؤال، فعليكم أن تقدروه حق قدره، وأن تشكروه حق شكره، على ما منحكم وأولاكم؛ ليحفظ عليكم نعمه، وليزيدكم من فضله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]. إن الشكر يا عباد الله، امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، ويكون بالإحسان إلى الفقراء، والعطف على المعوزين وذوي الحاجات والبائسين.
إن كل نعمة أنعم الله بها عليك -أيها المسلم- لها نوع من الشكر يخصها ويناسبها، فشكر المال أن تحسن كما أحسن الله إليك، وإن تؤدي حقه الواجب عليك، من نفقة واجبة، وزكاة مفروضة، وتيسير على معسر، وتفريج عن مكروب، وإغاثة لملهوف. إن المال الذي تنفقه في هذا السبيل هو مالك الحقيقي، وهو الذي انتفعت به غاية النفع، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة t قال: قال رسول اللهr: ((يقول ابن آدم: مالي مالي؛ وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأقنى. وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس)).
عباد الله: إن الزكاة ركن من أركان ديننا الحنيف، وأصل من أصول شريعتنا السمحة: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [البينة: 5]. ففي الزكاة تزكية للأموال ونموها وزيادتها؛ فيها حفظها عن التلف والهلاك، فيها تزكية للنفوس من الشح والبخل، والنبيrحذر غاية التحذير من الشح، فقالr: «إنما أهلك من كان قبلكم الشح أمرهم بالبخل فبخلو؛ وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا ».
إن الله أوجب في أموال الأغنياء نصيبا للفقراء، هي هذه الزكاة التي فرضها فرضًا، وهي مدخرة لصاحبها عند الله قرضا، فيها الأجر العظيم والثواب الجسيم: â{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } [التغابن: 17].
إن أداء الزكاة موجب للمحبة، فيحب الفقراء أغنياءهم، ويزيل حسدهم، ويذهب ضغائنهم، ويمحو أحقادهم، ويجلب مودتهم، فإن الغني ببذلها طهر نفسه من الشح والبخل، ووصل رحمه، وعرف حق المسكين والجار والسائل والمحروم، فأصبح الكل يتمنون له الخير، ويحبون له السعادة، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما آتاه الله، فتسود المحبة والوئام في المجتمع كله.
إن فريضة الزكاة من محاسن هذا الدين، إن فيها مصلحة الغني وفائدة الفقير، إن فيها النفع العام والخاص، إنها عون كبير على نوائب الحق في الإسلام، لقد كانت الزكاة في كثير من العصور المتقدمة هي أكبر مورد للدولة الإسلامية، فبها تجهز الجيوش، ومنها تدفع المغارم، وتتألف القلوب، ويعان بها المسافر، وتفك الرقاب، وتدفع حاجة الفقير والمسكين، إن الله افترضها علينا، وتولى قسمتها بنفسه، فقال سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. وغير هؤلاء لا تحل لهم، فلا تحل لغنى عنده ما يغنيه، ولا لقوي يستطيع التكسب بما يكفيه.
فأدوا عباد الله زكاة أموالكم، استجابة لأمر مولاكم، وحذرا من أليم عقابه، واغتناما لزيادة ما بأيديكم، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة t عن النبيr أنه قال: « ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا. ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا » .
عباد الله: إن أعظم العقوبات، وأشد الحسرات ما يلقاه العبد عندما يفارق أهله وذويه، وماله وبنيه، ويودع في قبره وحيدا لا أنيس ولا جليس فيه، إلا عمله، في ذلك الحين لا ينفعه الندم، ولا يدفع عنه العذاب حشم ولا خدم: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89].
عند ذلك: إن كان من مانعي الزكاة فأعظم موحش له ماله ودرهمه وديناره، يمثل له شجاعا أقرع أي: حية عظيمة يوكل بتقريعه وتعذيبه، فيا له من هول ما أفظعه! ويا له من منظر ما أشنعه! روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة t عن النبيrقال: (( من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه -يعنى شدقيه- ثم يقول: أنا مالك. أنا كنزك. ثم تلا رسول الله r:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [آل عمران: 180].
فاتقوا الله، عباد الله، وأدوا زكاة أموالكم شكرا لله على نعمته، وخوفا من عقابه وسطوته، فما هي إلا أيام قلائل، والكل ذاهب وزائل، وما متاع الدنيا في الآخرة إلا قليل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } [التوبة: 34، 35].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدى سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله على نعمه الوافرة، وآلائه المتكاثرة، أحمده سبحانه وأشكره على إحسانه العام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله سيد الأنام. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله، تعالى، واشكروه على ما أولاكم، واغتنموا أوقات المواسم المفضلة، والليالي المشرفة، فقد أقبلت إليكم عشر رمضان الأخيرة، وفيها من الأجر والإحسان ما لا يحصى، تتنزل فيها الرحمات، وتكفر فيها السيئات، فكم لله من عتيق من النار قد أوبقته الخطيئات! وكم فائز من ربه بالرضا والغفران! فاجتهدوا في هذه العشر المباركة اقتداء بالرسول الكريم r فقد كان إذا دخل العشر الأخيرة شد مئزره، وأيقظ أهله، ففي الصحيحين عن عائشة t قالت: « كان رسول الله r إذا دخل العشر شد مئزره، وأيقظ أهله، وأحيا ليله » فاجتهدوا فيها ، فإن فيها ليلة شريفة مباركة؛ ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر وقد قال r : « من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ».
وتذكروا رحمكم الله الآية العظمى، والنعمة الكبرى التي امتن الله بها على رسوله الكريم، ودينه القويم، في مثل هذا اليوم المبارك؛ يوم الجمعة السابع عشر من رمضان، فقد كان فيه غزوه بدر الكبرى، يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، فأعز الله به الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين.
وذلك أنه r لما خرج إلى بدر، وجاء أشراف قريش ورؤساؤهم لقتاله، استشار أصحابه t فتكلم المهاجرون بالنصر والتأييد، فسكت عنهم، وإنما كان قصده الأنصار؛ لأنه ظن أنهم لم يبايعوه إلا على نصرته على من قصده في ديارهم، فقام سعد t فقال: إيانا تريد؟ -يعنى الأنصار- والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نضرب بها البحر خضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا، وقال له المقداد t: لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون. ولكن نقاتل عن يمينك وشمالك، وبين يديك، ومن خلفك، فسر رسول الله r بذلك، وأجمع على القتال، وبات تلك الليلة ليلة الجمعة سابع عشر رمضان قائما يصلي، ويبكى، ويدعو الله، ويستنصره على أعدائه، ويستغيث بربه وحده، ولم يلتفت إلى أحد سواه، فيأتيه المدد والعون من السماء: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال: 9، 10]. فحصل النصر المبين والعز والتمكين.
وكان إبليس يقود المشركين ويعدهم ويمنيهم، ويشجعهم ويغويهم ويسعى جهده في إطفاء نور الله وتوحيده؛ فلقد جاء إلى المشركين في صورة سراقة بن مالك، وكانت يده بيد الحارث بن هشام، وجعل يعدهم ويمنيهم، فلما رأى الملائكة هرب وألقى نفسه في البحر، وقد ورد أنه ما رئي الشيطان أحقر ولا أدحر ولا أصغر من يوم عرفة إلا ما كان من يوم بدر، حينما رأى جبريل يزع الملائكة، فنفض يده من يد الحارث بن هشام، ونكص على عقبيه، وقال: إني بريء منكم، يقول سبحانه: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الأنفال: 48].
المرفق | الحجم |
---|---|
5 - أداء الزكاة.doc | 80.5 كيلوبايت |