الحمد لله الذي شرع الشرائع فأحكم ما شرع، وأوجد الكائنات فأبدع ما صنع. أحمده سبحانه حمد من شكر الله بقلبه ولسانه والعمل. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى الأمين. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق تقاته، وامتثلوا أوامره وانتهوا عن نواهيه، واعلموا أن الله-سبحانه-أمر بحج بينه الحرام، وجعل حجه ركنا من أركان دين الإسلام ورغب فيه، ووعد عليه الفضل العظيم، والثواب الجسيم، ورغب فيه نبيكم الكريمr، وبين ما يترتب على هذا الركن العظيم من الأجر الأوفر، والثواب المدخر، لمن قام به على وجهه، ففي البخاري ومسلم عن أبي هريرة-t-قال: قال رسول اللهr: (( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما. والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )). فعمل هذا جزاؤه على المسلم أن يحرص عليه بإخلاص وحسن قصد، ومتابعة للرسول الكريمr.
وفي الصحيحين أيضاً عنهrأنه قال: (( من حج الله فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه )).
فهذا إخبار منه عليه الصلاة والسلام بفضيلة حج هذا البيت الشريف، وما يترتب عليه من الثواب، لمن قصدة مخلصا لربه، قاصدا ثواب إلهه، ملبيا دعوه ربه، مستجيبا لنداء خليل الرحمن، متعرضا للثواب الجزيل الذي ترتب على أداء هذا النسك الشريف، فماذا يكون ثوابه؟إن ثوابه عند الله الجنة. إن ثوابه أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمة، أي: نقياً من الذنوب والآثام، يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة، كما يخرج المولود من بطن أمة، لم يعمل سوءا، ولم يرتكب ذنبا، ولا يتصور وقوع الذنب منه، مولودا على الفطرة. فعلى المسلم أن يحرص كل الحرص على التعرض لنفحات ربه، لعله أن ينال هذا الثواب العظيم، لعله يصادف قبولا من ربه، فيفوز فوزا عظيما.
إن الحج-أيها المسلم-فيه من المنافع والفوائد العظيمة التي لا تخطر ببال كثير من الناس، فيه التلبية الله لدعوته وأمره لحج هذا البيت، فيه الاستجابة لنداء خليل الرحمن، فيه الطواف بالبيت العتيق امتثالا لقوله سبحانه: { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]. فيه الاقتداء بهدي النبي الكريمrحينما طاف بالبيت الحرام، وقال: ((خذوا عني مناسككم )).
فيه التذكر لحاله الخليل؛ خليل الرحمن إبراهيم-عليه السلام- ودعائه لهذا البلد في قوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } [إبراهيم: 35]. فيه الصلاة عند مقامة الشريف الذي جعله الله من الآيات البينات في هذا الحرام الآمن امتثالا لقوله U:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}[البقرة: 125].
فيه التذكر لوحدة المسلمين وأن هذا البيت هو قبلتهم جميعا في مشارق الأرض ومغاربها وليس هناك مسلم إلا وهو ينجه إليه في كل يوم وليلة خمس مرات لأداء هذه الصلوات المفروضة. فيه التذكر لأحوالهrومقاماته في أول بعثته وهو يتقلب في عبادة ربه عند هذا البيت الشريف، ويدعو إلى توحيده وعبادته وحده، والتفطن لمجاهدتهrوصبره واحتماله لما يناله من أذية المشركين واستهزائهم به وبأتباعه، ووضع الأذى بين كتفيه وهو مساجد ياجي ربه، وتحديهم من يناصره، وصب أنواع العذاب على من يؤمن برسالته ويتابعه على دينه، وهوrلا يزيده ذلك إلا ثباتا ونشاطا في الدعوة، وثقه بربه، وإيمانا قويا بنصرة الله له ولدينه، وانتظارا للفرج من ربه وقد حصل له ذلك ونصره الله نصرا عزيزا.
وفى تجرد المسلم من ثيابه حين الإحرام ولبسه ثياب إحرامه وكشف رأسه والتضرع لله في تلك المشاعر والواقف المعظمة في عرفات والمشعر الحرام ونحر الهدي ورمي الجمار والإقامة في منى لذكر الله؛ في كل ذلك مظهر من مظاهر العبودية لرب العباد، وفيه رمز لقوله سبحانه:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
وفيه الإشارة إلى تحقيق الغرض الأسمى الذي خلق الخلق من أجله؛ وهو عبادته سبحانه حيث يقول جل وعلا: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات: 56]. فعبادته-سبحانه-هي الغاية التي خلق الخلق من أخلها، وهي الحكمة في خلق الثقلين الجن والإنس، فهم لم يخلقوا عبثا، ولم يوجدوا لعمارة الدنيا والتنافس فيها والعلو والتجبر، بل خلقها لتكون مزرعة للآخرة، ومتجرا لأهل الإيمان والتقوى:{وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ }[يوسف: 109].
فاتقوا الله عباد الله، وبادروا بالأعمال الصالحات ما دمتم في زمن الإمهال وقيد الحياة قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل، لتفوزوا بوعد الله على لسان رسولrحيث يقول: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
فما أسعد من وفقه الله لحج بيته لحج الحرام وتقبل منه حجه وعفا عن ذنبه! وما أبهج نفس من وصل إلى هذا البيت الشريف وطاف به مخلصا لربه فصلى تحت أعتابه في هذا الحرم الآمن الذي هو ملتقى جموع المسلمين من أقاصي الدنيا! يفدون إليه من أقاصبها وأدانيها، يأتون إليه من كل فج عميق؛ ليؤدوا هذا الفرض العظيم، وليجددوا العهد بالله ربهم وإلههم في بيته، ويعاهدون ربهم على الابتعاد عن الذنوب والمعاصي، وعلى التقرب إليه، بالطاعات، وإخلاص العمل له وحده لا شريك له، والبعد عن التعلق بأحد غير الله، له العبادة سبحانه، وبه الاستعانة والاستغاثة، لا ذل ولا خضوع إلا له، ولا رجاء ولا رغبة إلا إليه، ولا خوف ولا رهبة إلا منه، ولا توكل إلا عليه، ولا تضرع ولا دعاء إلا له، عليه توكلنا، وإليه أنبنا، وإليه المصير، لا إله غيره، ولا رب سواء:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}[النمل: 62].
إن المثول بين يدي الله في هذه البقعة الطاهرة المقدسة، أمام هذه الكعبة المشرفة التي جعلها الله قياما للناس من أعظم المقامات إشارة إلى قوله تعالى:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ }[المائدة: 97]. وهي رمز للحنيفية السمحة، ورمز لشعائر دين الله، وفيها الأثر البارز لإمام الحنفاء الذي وضع أسسه وشيد بناءه كما قال سبحانه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة: 127، 128].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد الله أحمده وأستعينه وأستهديه أستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين وأفضل الخلق أجمعين. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله، واشكروه على ماهداكم إليه من دين الإسلام ومامن به عليكم من إتباع هذا النبي الكريم، وعلى مايسره لكم من الوصول إلى بيته الحرام، والاجتماع أمام هذه الكعبة المشرفة في هذا المكان الظاهر الذي يرجى فيه إجابة الدعاء وحصول المأمول ورفع الدراجات وغفران السيئات. فهنا تسكب العبرات وتقال العثرات، وتصفو القلوب وتتعلق بربها علام الغيوب، هنا تلتقي الأشباح والأرواح، تلتقي أشباح المسلمين وأرواحهم قد اجتمعوا من جميع الأفاق أتوا إليه من كل فج عميق، قد اختلفت ألوانهم ولغاتهم وهيئاتهم وأزياؤهم، ولكن قد اتحدت مقاصدهم وأهدافهم يرجون ربهم، ويخافون عذابه، تعلقت قلوبهم، بربهم الواحد القهار، لا إله غيره ولا رب سواه، فاشكروه على هذه النعمة، وأخلصوا له القول العمل.
المرفق | الحجم |
---|---|
7فضل الحج.doc | 77 كيلوبايت |