الحمد لله العلي الكبير، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، أحمده سبحانه وأشكره على نواله الغزير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأمر والتدبير، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، السراج المنير، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، واللواء المعقود . اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم، واقتدى بهديهم إلى يوم الدين .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأطيعوه، وراقبوه في سركم وعلنكم، واحذروا أسباب سخطه وغضبه، فإن الذنوب والمعاصي سبب لزوال النعم، وحلول النقم، ومحق البركات، وتوالي النكبات، كما بين لنا القرآن الكريم ما حصل على من سلف من الأمم الخاليات . واعلموا أن ما عملتم من خير وشر أو ما كسبتم من إثم وبر فإنكم ملاقوه، وستجزون به يوم الحساب، فانتبهوا عباد الله من غفلتكم، واستيقظوا من رقدتكم، قبل أن لا تقال العثرات، ولا تقبل الاعتذارات، كما قال أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب t: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله، { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18].
واعلموا عباد الله أنه في مثل هذا اليوم العاشر من هذا الشهر المبارك، شهر الله المحرم، أنجى الله موسى وقومه، وأهلك فرعون وملأه، وذلك أن موسى u خرج ببني إسرائيل من مصر لما اشتد أذى فرعون لهم، وحينما أيس موسى u من إيمان فرعون بعد ما جاءه بالبينات الواضحات، والمعجزات الباهرات الدالة على صدقه، ولم يزل فرعون في تمرده وعتوه وعناده، يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [النازعات: 24] ويقول:{ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص:38] ، ويقول:{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51].
فلما اشتد حنقه وبغيه وتكذيبه لموسى أمر الله كليمه موسى u بالخروج بقومه، فخرج بهم،{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا } [يونس:90] لقصد تعذيبهم، والتنكيل بهم، وإبادتهم {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:30]. فلما كان البحر أمامهم، وفرعون وقومه من خلفهم، واشتد عليهم الكرب، {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }[الشعراء:61-62]. فأوحى الله إلى نبيه موسى {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}[الشعراء:63] أي كالجبل العظيم {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى }[طه:77] فتماسك البحر بإذن الله، ودخل موسى وقومه، وخرجوا آمنين مطمئنين سالمين، وفرعون وجنوده في أثرهم، فلما تكاملوا داخلين في البحر أمره الله بالانطباق عليهم فأغرقهم جميعًا في لحظة واحدة، {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى }[طه:78-79] .
فاعتبروا يا أولي الأبصار فلقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }[هود:102].
فتذكروا عباد الله كيف كان عاقبة الطغاة الظالمين، وكيف كان منتهاهم ومصيرهم، وهذه سنة الله سبحانه في كل متكبر جبار، وقد قال الله عز وجل في أمثال هؤلاء:{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }[النمل:51-52] .
فاتقوا الله عباد الله، وليكن حظكم من هذه الآيات والعبر الاعتبار، والتبصر، والرجوع إلى الله، والخوف من عذابه وسطوته، والمبادرة إلى التوبة والاستغفار، وامتثال الأوامر الإلهية، والاستقامة على الطاعة . واعلموا أنكم في شهر حرام، فضله على الله كثير من شهور العام، وهو شهر الله المحرم، أحد الأشهر الحرم التي حرم الله فيها القتال والظلم، وجعل لها ميزة من بين سائر الشهور. قال الله عز وجل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ }[التوبة:36]. وقد صحت الأحاديث عنه r في الحث على الصيام في هذا الشهر . لا سيما اليوم العاشر منه، فقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله r المدينة، فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم: « ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ » قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا لله، فنحن نصومه . فقال r: «نحن أحق بموسى منكم » فصامه r وأمر بصيامه([2]). وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن صيام يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية ([3])، وقال r:«لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر» . وقال r: « خالفوا اليهود، صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده » ([4]).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:90-92].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .
([1]) في اليوم العاشر من شهر محرم .
([2]) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء رقم (3397)، ورواه مسلم في كتاب الصيام، رقم (1130) .
([3]) رواه مسلم في كتاب الصيام رقم (1162) .
([4]) رواه أحمد في مسنده، 1/241 .
المرفق | الحجم |
---|---|
5قصة موسى وفرعون.doc | 64 كيلوبايت |