الحمد الله الذي أرسل رسوله بالهدى، ودين الحق، بعثه بالشريعة السمحاء، والمحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ نعمه، وتوافر آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوه حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، اتقوه بفعل المأمورات، والبعد عن المنهيات، اتقوه باتباع هدى نبيكم، والتأسي بسيرة صحبه الكرام، وسلفكم الصالح، واحذروا مخالفة أمره، والعدول عن منهاجه القويم الذي رسمه r لكم، وحثكم على التمسك به، واتباعه، والسير على نهج خلفائه الراشدين، وصحابته المهتدين، واعلموا-عباد الله-أن دين الحق الذي أكمله الله، وارتضاه لنا دينا هو ما تضمنه كتابه المبين، وما أوضحه لنا رسوله المصطفى الكريم r، في فعله وأمره وما درج عليه السلف الصالح من هذه الأمة، إياكم والغلو فيه، أو الجفاء عنه، فإن دين الله بين الغالي والجافي، فكم فرَّط قوم فانسلخوا من الدين، وكم أفرط آخرون فتجاوزوا النهج القويم، وإن قومًا قد استخفوا بدين الله وتركوا الواجبات، وارتكبوا المنهيات، ووقعوا في المحظورات، ويزعمون أنهم متمسكون بالدين، ويقولون: الإيمان بالقلب. يقصدون بذلك التخلي عن الالتزام بالواجبات الشرعية، وهذا خطأ ظاهر، فإن الإيمان هو ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال، يقول I:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة:5].
فمن لم يلتزم بالصلاة، ولم يؤد الزكاة، فأين منه الإيمان؟وفي الحديث: « العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ».
ولهذا يقول العلماء -رحمهم الله-: إن أركان لا إله إلا الله ثلاثة:قولها باللسان، واعتقاد ما دلت عليه بالجنان، والعمل بمقتضاها بالأركان.
فمن أرخى لنفسه الزمام بترك الواجبات، كالصلاة والزكاة والصيام، وبفعل المحظورات من شرك بالله، وقول على الله بلا علم، وارتكاب للمنكرات والفواحش، فكيف يكون مؤمنا؟ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، كما أن هناك أناسا آخرين يحرصون على فعل الطاعات، ويكثرون من العبادات، ولكن ربما استزلهم الشيطان بغفلة منهم، أو استغل رغبتهم في الخير، فأوقعهم في التشدد، والتنطع في بعض الأمور التي تخالف نهج الرسول الكريم r، كما حصل لمن قبلهم في زمنه r، وفي زمن خلفائه الراشدين من خروج بعض الطوائف عن منهج الحق، ومخالفة هدي الرسول r، حملهم على ذلك التشديد والتنطع، فإن الدين الحق، والصراط السوي، والمنهج القويم ليس هو بكثرة الصلاة والصيام، وأنواع الطاعات فقط، ولكنه فعل المأمورات واجتناب المنهيات، والسير على نهج المصطفى r، والتمسك به، وعدم مخالفته ؛ ولهذا يقول الله سبحانه: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الملك:2].
قال بعض السلف:لم يقل:سبحانه أيكم أكثر عملا، فإن العبرة بحسن العمل لا بكثرته، وحسن العمل كونه خالصا لله، وموافقا لسنة رسول الله، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}أي: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل؛ حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، ثم قرأ قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }[الكهف:110].
فلهذا يوجد بعض من الناس يشدد في بعض الأمور المستحبات ويجعلها كالواجبات، ويعادي من أجلها إخوانه المؤمنين، وربما فارق جماعتهم في المساجد من أجل أمور ليست من واجبات الدين، فيحصل بسبب ذلك تفريق للكلمة، ووجود بعض الأحقاد في أمور لا توجب ذلك، وهذا من الغلو ومن عدم الحكمة، فعلى المسلم التمسك بسنة نبيه، والدعوة إليها بالموعظة الحسنة، والحذر كل الحذر من الجفاء في الدين، أو الغلو فيه، فكلاهما مذموم، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فمن تساهل في أداء العبادات التي أوجبها الله، ولم يحافظ عليها فقد اتصف بالجفاء، ومن تكلف من العمل ما لا يطيق أو اعتقد وجوب شيء لم يوجبه الله ورسوله فقد غلا في دينه.
وقد روى البخاري ومسلم عن أنس t قال: « جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي e يسألون عن عبادة النبي e، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها. فقالوا: أين نحن من النبي e قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله e فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني » .
نفعني الله وإياكم بكتابه المبين، وهدي نبيه الكريم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
المرفق | الحجم |
---|---|
9الاستقامة على النهج السليم.doc | 72 كيلوبايت |