التحذير من قتل النفس المعصومة والإفساد في الأرض

( ألقيت في عام 1425هـ ).

الحمد لله الذي بصر من شاء من عباده للزوم الطريق المستقيم، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العزيز الحكيم، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، اتقوا ربكم، اتقوا من يعلم سركم وجهركم، اتقوه بفعل الطاعات، والبعد عن المحرمات .

عباد الله: لقد عظم الله تعالى حقوق العباد، وشدد في النهي عن الاستطالة على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فقال r في خطبة الوداع محذرًا من ذلك: « فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، فلا ترجعن بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض ».

لذا كان من أعظم الأمور التي نهى الإسلام عنها، وشدد النكير على فاعلها بعد الشرك بالله، هو قتل النفس المعصومة، فإن هذا إفساد في الأرض كبير، وهو أمر جلل، وجريمة منكرة شنيعة، حذر منها ربنا تعالى، وحذر منها نبينا r، فقد قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه: { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. وتوعد بعظيم الجزاء على من قتل مؤمنًا فقال عز وجل:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].

وقال المصطفى r: « لو أن أهل السموات والأرض، اجتمعوا على قتل مسلم، لأكبهم الله جميعًا على وجوههم في النار » .

بل حذر r من مجرد الإعانة على القتل فروي عنه e أنه قال: « من أعان على قتل مسلم، ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه: آيس من رحمة الله » .

عباد الله: أين عقول من يدعون الإسلام؟!، أين دينهم؟!، أين خوفهم من الله؟!، ما هذا التساهل في أمر الدماء والقتل، أهان عليهم الأمر حتى صار بعضهم يفتي لنفسه بحل دماء الناس، ثم يستحلها، ولقد أخبرنا الصادق المصدوق خبرًا يوجب الحذر والخوف من الله فقد جاء في الحديث عنه r أنه قال: « إن بين يدي الساعة الهَرْج، قالوا: وما الهرج ؟ قال: القتل، إنه ليس قتلكم المشركين، ولكن قتل بعضكم بعضًا، حتى يقتل الرجل جاره، ويقتل أخاه، ويقتل عمه، ويقتل ابن عمه، قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ يا رسول الله؟ قال: إنه لتنـزع عقول أهل ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس، يحسب أكثرهم أنهم على شيء، وليسوا على شيء » .

كيف يقدم القاتل على الفعل وهو يعلم بشاعة جرمه، وفظاعة فعله، فقد نصب له خصمًا يوم القيامة، ففي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت نبيكم r يقول: « يجيء المقتول متعلقًا بالقاتل، تشخب أوداجه دمًا، يقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني ؟ » .

أفلا يتذكر القاتل كم نفس آذى، وكم قلب أفزع، فهذان الوالدان المكلومان عصر الألم قلوبهما، وأذاقهما القاتل كؤوس العلقم والصبر، فحنى الحزن ظهورهما، وهد قوامهما، وأطفال صغار، فقدوا عائلهم ومربيهم، ينشدون الرحمة في قلوب الناس، وربما تشتت أحوالهم، وتغيرت أخلاقهم .

في أي حفرة أردى القاتل فيها نفسه، وأي ورطة تورط فيها، يقول ابن عمر رضي الله عنهما: « إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها:سفك الدم الحرام بغير حله» .

عباد الله: لقد شدد الإسلام على أمر القتل، وعظمه، ولم يعصم دم المسلم فحسب، بل عصم دم المسلم ودم الكافر، فحرم الاعتداء على من أمنه المسلمون ؛ لأن المسلمين يد واحدة، يسعى بذمتهم أدناهم، فمن قتل من أمنوه، فقد خانهم، واستحق عقاب الله تعالى، فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي r أنه قال: « من قتل معاهدًا، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا » قال ابن حجر رحمه الله: «والمراد به من له عهد مع المسلمين، سواء كان بعقد جزية، أو هدنة من سلطان، أو أمان من مسلم ».

عباد الله: ما هذه السكرة التي يعيشها من روع المسلمين، وخالف جماعتهم، وشذ عن طريقهم، أفلا يتفكرون إلى أين يذهبون، وما هم عاملون، إنهم يتهمون العلماء والمجتمع بالضلال، وأنهم هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر في وقت تخاذل فيه الناس، فقاموا بسفك الدماء، وترويع الناس ظنًا أنهم للإسلام ناصرون، وللحق مظهرون، وربما تمادوا حتى كفروا من كفروا، وجعلوا ذلك ذريعة للقتل والتدمير والإفساد.

وهذه الفتن يا عباد الله مما حذرنا منه نبينا e غاية التحذير، وحفظها عنه صحابته الكرام، ونقلها لنا الأئمة الأعلام وبينوها لنا أتم بيان، فقد ذكر e ما يحدث بعده من الفتن، ودلنا على ما يؤمننا منها، وما يحصل لنا به الحماية والسلامة من شرها فقال عليه الصلاة والسلام: « أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة » .

وإن أول الفتن ظهورًا كانت في عهد صحابة رسول الله e فخرج أناس كفروا أهل الإسلام من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فقاتلوهم وسفكوا دماءهم، ولقد أخبر عليه الصلاة والسلام عنهم بأنهم يخرجون ويقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان أن رجلاً غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله، اتق الله، فقال e: ويلك، أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله، ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا رسول الله ألا أضرب عنقه، فقالe: لا، لعله يكون يصلي، فقال خالد: وكم من مصلي يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله e: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم» .

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .

 

أول الخطبة الثانية

الحمد لله ذي الفضل العميم، والمن الجسيم، أنعم على عباده بأصناف النعم، وحذرهم أسباب النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه .

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعلموا أن تقوى الله تعالى هي الحصن الحصين الواقي من غوائل الفتن والشرور، وهي التي تنير لك الطريق المستقيم الذي ينجو من سلكه، ويفوز من انتهجه .

عباد الله: إن من توجيهات المصطفى r لعباده المؤمنين السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، ومعاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم في رفق ولين، وحب صلاحهم، ورشدهم، وعدلهم، وحب اجتماع الكلمة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله عز وجل، فقد قال r: « من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل، فإن له بذلك أجرًا، وإن قال بغيره فإن عليه وزرًا » رواه الشيخان .

وجاء في الصحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: « دعانا النبي e فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم من الله فيه برهان » .

هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على رسوله ومصطفاه، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [الأحزاب: 56].

 

( ألقيت في عام 1425هـ ).

الحمد لله الذي بصر من شاء من عباده للزوم الطريق المستقيم، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العزيز الحكيم، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ." data-share-imageurl="">