الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، نحمده ونشكره؛ أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى، وراقبوه مراقبة من يعبده كأنه يراه، ومن يعلم أن الله مطلع على سره ونجواه، واعلموا أن مرور الزمان ودوران الأيام يؤذن بانقضاء الأعمار، وهدم مشيد الديار، وأن السعيد من عمل بكتاب ربه، وهدى نبيه e ، واتخذ زادًا لمسيره إلى دار القرار، وإنكم عباد الله في بلد أمين، بعث فيه المصطفى r، ونزل عليه الوحي فيه، وقام بالدعوة إلى توحيد الله، إلى دين الله، إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمة الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان، ومن ظلمة الجهل والشكوك إلى نور العلم والعرفان، ومن ظلمة الطغيان والفساد إلى نور العدل والخشية من الله، وأنكم - أيضًا- في هذه الأيام تستقبلون عاما هجريا جديدا، يذكركم بهجرة المصطفى r، ففي هذه البلاد المقدسة كان r يستقبل وحي ربه يلقيه عليه بواسطة أمين الوحي جبريل، ويقوم r بإبلاغه للأمة، ويطبق تعاليمه، ويعلمه الأمة بأقواله وأفعاله. ومع ذلك فقد حصل له ولمن آمن به من الأذية والابتلاء والامتحان ما حصل لأولى العزم من الرسل وأتباعهم من قبله، وكما يحصل لكل مؤمن مجاهد، ولكن في صبره r واحتماله ومجاهدته واصطباره أروع الأمثال، وأسمى الأفعال، لنا فيه قدوة ، وفيه لنا أسوة.
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]
وفي نصرة الله له، وإعلاء ذكره وانتصاره على جميع من عاداه، وتمكين الله له في الأرض ما يملأ النفوس تصديقًا به، وثقة بالله، وتفانيًا في نصرة دين الحق الذي وعد الله أن يظهره على الدين كله، وقد حصل هذا والحمد لله.
وقد كان مبدأ ذلك هجرته r إلى المدينة، فلقد هاجر عليه الصلاة والسلام إلى الله، وفي سبيل الله، وهجر بلده وعشيرته؛ لما رأى استكبار قريش، وإباءهم عن قبول الحق، وصدهم عن سبيل الله، ومحاولتهم لإطفاء نور الله. { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]
فعندما اشتد أذاهم له وحاولوا أن يوقعوا به أشد ما يجدون من النكاية، إما الطرد والإبعاد، وإما الحبس والاضطهاد، أو القتل والإعدام. ورأى أشدهم كفرا، وأعظمهم شرا، أن القتل هو الذي يشفى عليلهم، ويروي غليلهم، وأيده على ذلك شيطانه وقرينه، وجنده وأعوانه، فعند ذلك أمر الله نبيه بالهجرة؛ ليحقق له نصره، ولتكون لمن بعده أسوة وعبرة، وأنزل في ذلك قوله-تعالى- { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
فهاجر r إلى المدينة ومعه رفيقه في الغار أفضل هذه الأمة؛ أقواها إيمانا، وأشدها ثباتا، صاحبه أبو بكر الصديق t وقد اشتد خوفه لا على نفسه، ولكن شفقة على الرسول الكريم، وهو r مطمئن الحال، هادئ البال، يهدئ روع أبي بكر، ويذكره بمعية الله الخاصة وعنايته بهما قائلا: { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 40]
وهناك في المدينة بشائر الفرح والسرور، والبهجة والحبور، والاغتباط بمقدمه يملأ نفوسهم، ويثلج صدورهم، قد هيأهم الله لنصرة نبيه، وإعلاء كلمته، وجعل دارهم ملجأ ومعقلا لكل مؤمن يفر بدينه، يواسونهم ويفرحون بقدومهم. {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [الحشر: 9].
فلما اطمأن r بالمدينة، وأذن الله له بالجهاد والقتال وأمره به؛ امتثل لأمر ربه وجاهد أعداء الله، فتتابع له النصر والظفر، ومن أعظم ذلك: يوم بدر ، يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123]. ثم توالت الانتصارات وتتابعت؛ حتى دخل r مكة فاتحا ظافرا منتصرا، يؤمن أهلها على أنفسهم، ويصفح عنهم، ويقوم على باب هذه الكعبة المشرفة خطيبا قائلاً : ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ثم قال: يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، فيقول عليه الصلاة والسلام: اذهبوا فأنتم الطلقاء )). وينادي بلال t بأعلى صوته بتكبير الله، وشهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله، فوق رؤوس صناديد قريش، يدعو إلى عبادة الله وتوحيده.
ولقد كان قبل الهجرة يعذب على إيمانه، وتوضع الصخرة العظيمة على صدره في شدة الرمضاء وحرارة الشمس؛ ليرجع عن دينه فلا يزيده ذلك إلا ثباتا على إيمانه وتوحيده لربه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [غافر: 51].
فتدبروا -رحمكم الله- عاقبة الصبر على طاعة الله، والجهاد والهجرة في سبيله، وكيف كانت عاقبة المجاهدين الصابرين، ولا تغتروا بزهرة الحياة الدنيا، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله الهادي إلى صراطه المستقيم، يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو الحكيم العليم، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وآله وصحبه.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله - تعالى - حق تقاته، وحققوا إيمانكم بربكم بالأعمال الصالحات، والاعتماد والتوكل عليه في جميع المهمات، حققوا شهادة أن لا إله إلا الله بإخلاص العبادة له، وعدم التعلق بغيره، حققوا شهادة أن محمدًا رسول الله بالتمسك بسنته، والاهتداء بهديه، وتقديم قوله على قول كل أحد كائنًا من كان، فهو r المعصوم من الخطأ والزلل في جميع ما يبلغ عن ربــه: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4].
وغيره من البشر يجوز عليه الخطأ والزلل، فالزموا هدى نبيكم تفلحوا، واقتفوا أثره تربحوا.
المرفق | الحجم |
---|---|
3ذكرى هجرة المصطفى.doc | 75 كيلوبايت |