الحمد الله الكريم المنّان، دائم الفضل والإحسان، أحمده سبحانه على آلائه الغزار، وأشكره على جوده المدرار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، المصطفى الأمين. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله في جميع أوقاتكم، وراقبوه في سركم وعلانيتكم، واعلموا أن الله فضل بعض الأوقات على بعض، وشرف بعض الليالي والأيام، وجعلها متجرا لعباده المؤمنين، فهذا شهر رمضان شرّفه الله وفضلّه، وأنزل فيه القرآن، وفرض صيامه على الأنام، وجعله موسما من مواسم العفو والغفران، من صامه إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا وفضيلة.
إن الله فرض الصيام لتهذيب النفوس من الرذائل، وتحليها بالفضائل، فرضه تحقيقا لمصالحهم، وتهذيبا لأخلاقهم، به يتعود المسلم الصبر والمجاهدة على العبادة، والإيثار، والعطف على إخوانه المؤمنين، يرتفع به عن مشابهة الحيوان، ويتشبه بالملائكة الكرام، تزكو نفسه بالتقوى، ويعظم قدره بالصبر، إنه يتجلى فيه الصبر في أوضح صوره، سماه رسول الله r شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، يقول سبحانه:{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10].
عباد الله: إن العشر الأخيرة منه قد اقتربت، وهي أفضل أيامه ولياليه، لقد كان r يخصُّها بمزيد من العبادة؛لأن فيها ليلة القدر، التي هي أفضل جميع ليالي العام كله، وأزكاها عند الله، خصها الله بإنزال القرآن فيها، وفيها يُفرق كل أمر حكيم. فيها تنزل الملائكة الكرام، من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، لقد كان r يعتكف العشر الأخيرة، رجاء ليلة القدر، ويحيي لياليها بالعبادة، طلبا لثوابها، فأكثروا عباد الله فيها من العبادة، والإحسان، والتوبة، والاستغفار، وكثرة الصلاة، والطواف، واجتهدوا في الدعاء، والالتجاء إلى الكريم المنان، بسؤال الجنة، والاستعاذة من النار، خصوصا في مواطن الإجابة، كحالة السجود، ووقت السحر. وإن أرجى هذه الليالي أن تكون ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين، فاطلبوا فيها العفو والغفران، فقد سألت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- رسول الله r، ما تقول إذا هي وافقت ليلة القدر؟فقال لها رسول الله r قولي : ((اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني )). اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، ومنَّ علينا بالمغفرة، والعتق من النار يا رحمن.
عباد الله: إن الزكاة ركن من أركان ديننا الحنيف، وأصل من أصول شريعتنا السمحة، وإن في إخراجها تزكية الأموال، ونموها، وزيادتها، فيه حفظها من التلف، والهلاك، فيه تزكية النفس من الشح، والبخل.
إن فريضة الزكاة من محاسن هذا الدين، إن فيها مصلحة الغني وفائدة الفقير، إن أداءها موجب للمودة والمحبة، فيحب الفقراء أغنياءهم، ويُزيل حسدهم، ويذهب ضغائنهم، وأحقادهم، إن بذلها نوع من أنواع الشكر لله على نعمه، وإن البخل بها، وعدم إخراجها نوع من أنواع كفر النعمة، والله U يقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم: 7].
فاشكروه سبحانه على نعمه واسألوه المزيد منها، وتعرضوا لنفحات ربكم بالعطف على الفقراء، والمساكين، والمعسرين، والمنكوبين، وأكثروا من التوبة، والاستغفار، وذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، وتدبروا كتاب ربكم، وتفهموا معانيه، وأكثروا من تلاوته، والزموا العمل به، فإنه النور والهداية، إنه شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، إن تلاوة القرآن من أجل الطاعات، وأفضل القربات، خاصة في مثل هذا الشهر الكريم، الذي أنزل فيه القرآن، لقد كان r يكثر التلاوة فيه، وقد كان جبريل u ينـزل إلى رسول الله r يدارسه القرآن كل ليلة من رمضان، ويعرضه عليه، وفي السنة الأخيرة من عمره r عرض عليه القرآن مرتين.
وقد كان r يرغِّب أصحابه في التلاوة، ويحثهم عليها، ويبين لهم فضلها، فقد روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود t قال:قال رسول الله r: « من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنةٌ، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف ».
فاتقوا الله عباد الله، واجتهدوا في العمل بقية شهركم، فإنه قد أوشك على الارتحال، وإن الأعمال بالخواتيم، فمن أحسن فعليه بمتابعة الإحسان، ومن فرّط فليتدارك بقية هذه الليالي والأيام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } [فاطر: 29، 30].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين، من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد الله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيما لشأنه سبحانه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وآله وأصحابه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، أيها الإخوة المؤمنون، إنكم في موسم عظيم من مواسم الخيرات، فاغتنموا هذه الأوقات، وتعرضوا لنفحات ربكم في هذه الأيام والليالي المباركات، واعلموا أن الأعمال الصالحة تضاعف في هذا الشهر الكريم، فعليكم بالجد والتشمير في طاعة مولاكم، والعطف على المعوزين من إخوانكم، ومواساة المنكوبين منهم، إن جموعا من إخوانكم في كثير من البلاد الإفريقية قد مسهم الضر بسبب الجفاف، وما يسببه من فقر وجوع ومرض، فاسعفوهم وواسوهم تنالوا الأجر من الله، ويدفع الله عنكم السوء والمكروه بما تقدمونه من صدقات وإعانات:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } [الحديد: 11]. كما أن لكم إخوانا يجاهدون في سبيل الله، يدافعون عن عقيدتهم، وعن دينهم، ووطنهم، وهم في أمس الحاجة إلى إعانتهم، وتقويتهم بالمال، والدعاء والتأييد، فأعينوهم أعانكم الله. أعينوا من يقاتل في سبيل الله، من يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فإعانتهم مشاركة لهم في هذا العمل الجليل ففي الحديث: «من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في سبيل الله في أهله بخير فقد غزا».
فسارعوا -رحمكم الله- إلى مغفرة الله ورضوانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [آل عمران: 133، 134].
المرفق | الحجم |
---|---|
4اغتنام مواسم الخيرات.doc | 76.5 كيلوبايت |