(ألقيت بتاريخ 15/ 8 /1411هـ ).
الحمد لله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، سبحانه من له الخلق والأمر، وكل شيء عنده بمقدار {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }[الروم:4-5] .
أحمده سبحانه وأشكره على فضله العميم، وكرمه المستديم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في محكم التنزيل:
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38] وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، خير الورى، والرسول المجتبى، القائل: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ([1]). اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، أهل البر والتقى، ومن سار على نهجهم واقتفى .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واشكروه سبحانه على نعمه التي لا تحصى، ومننه التي عليكم تترى، وجددوا لله شكرًا على فضله وامتنانه، بنصره الحق وإزهاق الباطل، ونصر عباده المؤمنين، ورفع الظلم عن المظلومين، { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا }[الإسراء:81].
كما منَّ سبحانه بإهلاك الباغين، وقمع المعتدين، وإذلال المفسدين، فسبحان من جعل الذلة والصغار على من خالف أمره، وأفسد في أرضه، {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، صب عذابه على الطاغين، وأذاقهم العذاب الأليم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }[هود:102].
أخبر سبحانه أن على الباغي تدور الدوائر، فقال عز من قائل:
{إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}[يونس:23] وإن عاقبة الماكرين أن يمكر الله بهم {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }[الأنفال:30] {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}[فاطر:43]، وجعل الدائرة على الناكثين للعهود والمخالفين للوعود {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ}[الفتح:10].
وجعل سبحانه الدمار والعار على ذوي البغي والفساد {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}[الفجر:13-14] وهكذا تكون عاقبة المفسدين والباغين في كل مكان وحين،{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ }[النمل:51].
فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على ما من به من كشف الغمة، وإزالة الكربة، وجددوا لله شكرًا، كلما تجددت النعم عليكم، وأنتم تعلمون أن نعم الله تجدد على خلقه بالرواح والبكور، وبالليل والنهار، فأكثروا من ذكره وشكره، والزموا طاعته، والقيام بأمره واجتناب نهيه، فإن الشكر ليس باللسان فقط، وإنما هو باللسان والجنان وبالجوارح، ولقد كان نبي الهدى والرحمة r يقوم من الليل حتى تفطرت قدماه، ولما قيل له: إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال r: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» ([2]).
وإن من أهم أنواع الشكر الإقبال على الله، والتوجه بالقلوب والأعمال إليه سبحانه، والقيام بأوامره . وإن على كل فرد منا القيام بأمر الله في نفسه، وفي من تحت يده، كل بحسبه .
فالرجل في أهله، وفي بيته، ومن له ولاية عليه، يجب عليه نحوهم القيام عليهم بالتأديب، والتعليم، والتوجيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحافظة عليهم من الانزلاق في الذنوب والمعاصي . وكذلك الأمهات عليهن التعاون مع الآباء فيما يعود على الأسرة بالخير والاستقامة على الطاعة .
وإن على ولاة أمور المسلمين وقادتهم في كل بلد إسلامي أن يطبقوا على رعاياهم أوامر الله، وينفذوا فيهم شريعة الله، ويقيموا حدوده، ويتحاكموا إلى الله ورسوله، ويطبقوا ذلك على أنفسهم، وعلى شعوبهم.
فإن الحكم بما أنزل الله واجب على كل مسلم، ولكن على ولاة الأمور القيام بذلك وتنفيذ أحكام الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يقوموا بنصرة المظلوم، وأخذ الحق من القوي للضعيف، والعدل بين الناس، والوقوف بجانب الحق أينما كان، فإن هذا من شكر النعم، والله سبحانه يقول:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }[إبراهيم:7].
فتحكيم شريعة الله على عباد الله في أرض الله واجب على ولاة أمور المسلمين وقادتهم أينما كانوا، فإن الله سبحانه يقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:44] ويقول سبحانه في بيان حق رسول r على الأمة الإسلامية {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:65] .
وإن المسلم ليأسف لواقع كثير من بلاد الإسلام حيث أنهم استبدلوا بشريعة الله، قوانين وضعية من وضع البشر، بل من وضع أعداء الملة الإسلامية، والله عز وجل يقول: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }[المائدة:50].
وإنا نحمد الله عز وجل ونشكره، أن هيأ لهذه البلاد قادة وفقهم الله لتطبيق شريعة الله، والتحاكم إليها، واختاروا رجالًا من العلماء للحكم بين الناس، وأقاموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عملًا بقوله سبحانه: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:110].
عباد الله: إنا لو تأملنا ما حل بالأمة الإسلامية من الكوارث الخاصة والعامة، والحروب المدمرة، والزلازل، والفيضانات، لوجدنا أن ذلك سببه الذنوب والمعاصي، ومخالفة أمر الله، وعدم تطبيق شريعة الله، وعدم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال سبحانه وتعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }[الروم:41]، ويقول سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأعراف:96] وقد وعد الله جل وعلا من أطاعه، وامتثل أمره، بالتمكين في الأرض، والاستخلاف فيها، ووعدهم بالأمن والطمأنينة، كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }[النور:55].
نفعني الله وإياكم بالذكر الحكيم، وبهدي النبي الكريم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .
أول الخطبة الثانية
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، أحمده سبحانه على فضله ونعماه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفرد في علاه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، الذي اختاره الله واصطفاه، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه، واقتفاه .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن العاقبة للمتقين، وأن الدائرة على المعتدين، فاتقوا الله والزموا طاعته، وابتعدوا عن معصيته، وأحسنوا عملكم مع الله، ومعاملاتكم مع عباد الله، فإن الله مع المحسنين والمتقين بمعيته الخاصة، يحوطهم ويحميهم، ويدافع عنهم {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ }[النحل:128].
وخذوا من واقع أمركم في هذه الأيام عبرة، فإن ما ابتلي به المسلمون من تألب الأعداء عليهم، وتكتل المجرمين، لسفك الدماء البريئة، وغزوهم في ديارهم، وما جرى منهم من قتل وتشريد، وهتك للأعراض وسلب ونهب، هو بلا شك بلاء ومحنة، وشر مستطير، ولكن لما التجأ المسلمون إلى الله، وتضرعوا إليه، وألحوا في الدعاء، وتوجهوا إلى الله بقلوبهم في السراء والضراء، والاستعانة بالله، والتوكل عليه، عملًا بقوله سبحانه: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] فلما التفتوا بقلوبهم إلى الله، مع عمل الأسباب المأمور بها، أعطاهم الله بذلك النصر المبين، واندحار قوى الشر والعدوان، وردها على أعقابها، وفشلها في سياستها الآثمة، وعدوانها الغاشم، وإحباط مخططاتها الإجرامية الآثمة.{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [غافر:51].
([1]) رواه البخاري في كتاب تفسير القرآن عند قوله تعالى:{كَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود: 102]، رقم (4686)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، رقم (2583).
([2]) رواه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، رقم (2819) .
المرفق | الحجم |
---|---|
18بعد انتهاء الحرب الخليجية.doc | 82.5 كيلوبايت |