معالي الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي وإمام وخطيب المسجد الحرام.
« الحمد لله الذي رفع شأن العلم وعظم قدر العلماء، والصلاة والسلام على إمام الحنفاء وسيد الأصفياء، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره ما تعاقب النور والظلماء، أما بعد:
فمما لا شك فيه أن للعلماء مكانة كبرى، ومنزلة عظمى، قال تعالى: )يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات( فإذا جعلت النجوم زينة للسماء، وهي اللآلئ التي طرزت بها الصحيفة الزرقاء، فإن العلماء هم زينة الأرض ونورها وجمالها وسرورها، بهم تهتدي العقول الحائرة، ومن معينهم ترتوي النفوس الظامئة، وإلى ظلالهم الندية تفيء الأرواح الطاهرة.
ولقد حَدَّثنا فَجْرُ التَّاريخ، وأنْبأنا ضُحى الزَّمان، بل أَصَّلَت لنا شريعة الدَّيّان، أنَّ حضارات الأمم والجماعات، وأمْجاد الشُّعوب والمُجْتمعات: العلمية، والفكرية، والإصلاحِيّة، لا تقوم إلا على مَصَابيح العلوم، ومشاعِل المعرفة، وسُرُجِ الفهوم، التي يَمْتشِقها العلماء الرَّبَّانِيُّون : المصْلِحُون الصَّادِقون، والمفكِّرون المُلهمون، والمُربُّون المبدعون ؛ لأنهم كالماء المَعين يَسُوقه المولى ـ سبحانه ـ إلى الأرض الجُرز، فتهتزُّ بعد همود، وتَرْبو بعد جمود، فتُنْبِتُ كُلَّ زوْجٍ بهيج، وتَضُوعُ بِكل عَرْفٍ أريج ؛ لأنهم خُصُّوا بِسِرِّ مِيرَاث الأنبياء، ألا وهو: العِلم، قال e : « إنَّ العلماء ورثة الأنبياء، لم يورِّثوا دينارا ولا درهما،إنما ورَّثوا العلم، فمن أخذ به، أخذ بحظٍّ وافر» رواه أبو داود. قال العلاَّمة ابن القيم رحمه الله : ( العلم هاد، وهو تركة الأنبياء وتراثهم، وأهله عَصَبتُهم وورَّاثُهم) ؛ لأنه مُنطلق الدِّين، ورِكاز الدَّعوة الثَّمين، ونِبْرَاس الأئمة المجتهدين، العلم : ربيع الباحثين النُّبهاء، وعِطر الدَّارسين النُّجَبَاء، وأنْس المُحَققِّين النُبلاء، فيه نور السُبل والدُروب، وجلاء البَصائر والقلوب ؛ لذلك – وما أعظم ذلك – لم يَسْتزِد المصطفى e إلا مِن العِلم، قال جلَّ شأنه ) وقل ربِّ زِدْني علما( .
وإن يكن العلماء بهذا المحل الأسنى والمقام الأعلى؛ فإن لعلماء الحرمين الشريفين من الشرف أعلاه، ومن الفضل أزكاه، كيف لا وقد شرفهم الله، فجعلهم حراس المنبعين، وأسطين المسجدين، ولذلك كانت لهم في العالم الإسلامي مكانة لا تجارى، ومنزلة لا تبارى.
ومن هؤلاء الأئمة الفضلاء والعلماء الأجلاء والحكماء النبلاء معالي شيخنا العلامة الفقيه الإمام/ محمد بن عبد الله السبيل – رحمه الله – الذي اشْتهر عِلْمه وصِيته اشتهار الشمس في رابعة النَّهار، وسَار ذِكْره الأرِج المعطار، في مشارق الأرض ومغاربها من الأقطار ؛ كيف وقد قضَى من عُمُرِه المُبَارك أكثر من أربعين سَنة في محرَاب المَسْجد الحرَام ومِنْبرِه، يَدْعو إلى الله – تبارك وتعالى – بِلسَانِه ومِزْبَره : تَرْبيةً وتعليمَا، إرْشادًا وتفهيمَا، دَاخِلِيًّا ودولِيًّا، وذلك بما خصَّه الله – سُبحانه – بالمكارم الفريدَة الحُسْنى، والمَنَاقِب المُوَشَّاةِ بَهْجةً وحُسُنا : فعقلٌ موفور رَاجح، وقول ندِيٌّ سَاجح، مع طيب المَعْشر، وكرَم النِّجار، ومَجَادَة النَّحِيتة، عَزَّزَ ذلك وعضَّده في مَيْدَان العلوم والمعَارف : صَفَاء الذِّهن، وقوَّة العَارِضة، والتِمَاع الفؤاد، فكان –رحمه الله وأكرَم مثواه – طيلة حَياته في رياض الجدِّ والدَّأبِ مَسِيرُه، والعِلْم دَيْدَنه وسَميُره، وحُبُّ الخير حاديه ومُثيرُه، إلى أن غَدَا في الفقه ـ والحَنْبَليِّ خصُوصًا ــ، طوْده الأشم، وبَدْرَه الأتم، الذي تلألأت في العالم الإسلامي بَوَارِقُه، وسَرَى منه عَذْبُه ورَائقه، مع دِقَّة التَّدْليل، وجَزَالَةِ التَّأصيل، وفي الخطابة الخطيب المُجَليِّ المِصْقع، وفي الدَّعوة والوعظ، الرَّائد المِسْطَع، وأمَّا في اللغة وفُنونها، فَفَارِسٌ وأيُّ فارس !! زَاحم بِمَتِين عارِضته ابن فارس . وفي الجملة، فقد صَحَّ فيه قول الإمام الشاطبي – رحمه الله – «وقد تحقَّق بالعِلم وصَارَلهُ كالوَصْفِ المَجْبُول عليه، وفَهِم عن الله مُرَادَه » .
ومِنْ يسير الوفَاء لشيْخنا العَلاَّمة –رحمه الله- جمع آثاره وطباعتها ونشَرها ؛ رَاجين من المولى –جلَّ اسمه- أن تكون من العمل الخالد الباقي، الذي لا يعروه انْفِصال أو انْقِطاع، أو دُروس واتِّضاع ؛ لِمَا أخْرَجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا مات الإنسان انْقطع عنه عمله إلاَّ مِن ثلاثة : إلاَّ من صَدَقة جارية، أو علم يُنْتفع به، أو وَلَدٌ صالح يدعو له » .
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شـاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد شــهم يموت بموته بشـر كثير
ومن هنا تأتي أهمية جمع الحصيلة العلمية، والنتاج الزاخر الذي تركه هذا العالم الجليل، ونثره في دروسه وخطبه وفتاواه ومؤلفاته، فهو ليس مجرد علم يجمع، بل هو : علم وتربية وتزكية وتجربة وخبرة، بل هي موسوعة متكاملة في شتى العلوم والمجالات .
ولقد كان من فضل الله على الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي أن قامت بطبع هذا التراث الضخم ونشره وتوزيعه عبر مركزها الميمون (مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي) وهو مركز مبارك يقوم عليه ثلة من ذوي الاختصاص والخبرة، ويعنى بدراسات الحرمين الشريفين الشرعية والتاريخية والعلمية، وقد جمعت هذه الحصيلة العلمية المباركة في عشرة أسفار تتهادى إلى قرائها في حلة قشيبة وطبعة فاخرة وتنسيق أنيق ؛ لعله يكون من المآثر الباقية والصدقات الجارية لشيخنا المبجل رحمه الله.
وختامًا أزْجِي من الشكر أعطره، ومن التَّقدير أوفرَه، للأبْنَاء البَرَرَة، والأصهارالخِيَرَه، لسماحة شَيْخنا العلامة محمد بن عبدالله السبيل –رحمه الله- كِفاء بِرِّهم بوالدهم، وحرصهم على إخراج آثاره العلمية الكاملة ؛ لِيَرتوي منها الصَّادي، ويشدو بإمتاعها الحَادِي . كما أتوجيه إلى الله بالدعاء أن يسبغ على شيخنا واسع رحمته وعظيم مغفرته كفاء ما قدم في خدمة الإسلام والمسلمين وما قدمه للحرمين الشريفين، وأن يجعل هذا العمل المبارك في ميزان حسناته وصالح أعماله إنه جواد كريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا .
المصدر : كلمة الشيخ في مقدمة ( المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ العلامة محمد بن عبد الله السبيل رحمه الله)