رحم الله السبيل
معالي الدكتور د. محمد بن ناصر الخزيم نائب الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام .
« )كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ( إنا لله وإنا إليه راجعون..بعد عصر يوم الاثنين 4/2/1434 هـ هاتفني أخي سعادة الأستاذ عبد الله بن محمد السبيل بصوت مختلف ونبرة حزينة محشرجة في صدره مخبرًا بوفاة والدنا سماحة الشيخ محمد بن عبد الله السبيل رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وأن يجعل ما أصابه من مرض زيادة أجر وخير )فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) وأحسن الله عزاء أبنائه، أخي عبد الله بن محمد السبيل، وإخوانه، وأخواته، وزوجات الفقيد، ومحبيه، وألهمهم الصبر والسلوان .
وكان وقع هذا الخبر علي شديدًا مع إيماني بالقضاء والقدر، وأن هذا مصيرنا جميعًا، ولكن فقد هذا العالم هذا الأب الرحيم هذا الكريم الشهم هذا الإداري الناجح هذا الداعية المؤثر محزن لي أشد الحزن، ومؤلم أشد الألم؛ لأنه بمثابة والدي، وعالم من علماء الأمة، تقي ورع ذو أخلاق رفيعة ومناقب عالية وتواضع جم .
ولد رحمه الله عام 1345هـ في محافظة البكيرية، وظهرت عليه علامات النبوغ مبكرة، فحفظ القرآن الكريم وأم الناس وعمره 14 عامًا وقد وفقه الله إلى التحصيل العلمي المثمر؛ لحسن نيته، وذكائه، وحرصه ومثابرته، وكان طلبُه العلم على عدد من المشايخ، منهم والده الشيخ عبد الله بن محمد السبيل، وشقيقه العلامة عبد العزيز بن عبد الله السبيل، والشيخ محمد المقبل، وجدي الشيخ محمد بن عبدالرحمن الخزيم، والشيخ محمد بن صالح الخزيم، وسماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، والشيخ سعدي يس رحمهم الله وغيرهم .
ولتفوقه في العلم عين مدرسًا في أول مدرسة في محافظة البكيرية عام 1367 هـ، ثم مدرسًا في المعهد العلمي في مدينة بريدة عام 1373 هـ وفي عام 1385 هـ عين رئيسًا للمدرسين والمراقبين في رئاسة الإشراف الديني على المسجد الحرام، وإمامًا وخطيبًا في المسجد الحرام، وعين رحمه الله رئيسًا لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي عام 1411هـ حتى صدرت الموافقة السامية بإعفائه من منصبه عام 1421 هـ بناءً على طلبه، واستمر بالإمامة والخطابة حوالي 44 عامًا، ثم طلب الإعفاء عام 1429هـ من باب الورع وخشية التقصير، وكان رحمه الله عضوًا في هيئة كبار العلماء حتى عام 1426هـ، وعضوًا في المجمع الفقهي، ورئيسًا أو عضوًا في عدد من الجمعيات الخيرية، وسماحته من رواد التعليم الأوائل، ذوي الأثر الطيب والتأثير الملموس، وقد أحبه طلابه رحمه الله، وكانوا يتنافسون إلى حضور دروسه بدون كلل أو ملل، وذلك لغزارة علمه وحسن أسلوبه وقدرته على إيصال المعلومة وبشاشته وسماحته، فتخرج على يديه عدد من الطلاب وكنت واحدًا منهم، وقد عشت في منزله في بريده ردحًا من الزمن، وأفتخر بذلك؛ لأنه كان لي نعم الأب والمعلم والمربي والصديق، ثم الرئيس، جزاه الله خيرًا وأسكنه فسيح جناته .
وقد كان منزله في بريده رحمه الله مفتوحًا لطلاب العلم والمحتاجين والقادمين من البكيرية وغيرها، منهم من يسكن فيه لطلب العلم، ومنهم من يأتي للعلاج، وفيهم الغني والفقير والمحتاج. وكان رحمه الله يستقبل الجميع، ويكرم الزائر، ويهيئ الأسباب المريحة للمقيم عنده، لا يظهر مللًا ولا يستثقل أحدًا، وهذا شأنه في منزله في مكة المكرمة؛ لأن الكرم سجيته رحمه الله. علم في المجالس، يفسر ويحدث ويفتي ويروي الجيد من الشعر وأمثال العرب والقصص الهادفة، موفق في اختيار الشواهد أثناء حديثه من القرآن الكريم والسنة المطهرة أو الشعر أو الحكمة، فيشد السامع إليه بحسن عباراته وبراعة استهلاله وحسن انتقاله من فكرة إلى أخرى . فهو عالم ومرجع في علوم شتى، منها علوم القرآن، والحديث، والفقه، والفرائض، وعلوم اللغة العربية .
ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحـد
وهو محبوب لدى الجميع..وإذا أحب الله يومًا عبده، ألقى عليه محبة في الناس، سجيته التقوى والورع، ومنهجه الإحسان والتواضع، وقد قال رحمه الله في إحدى قصائده:
طلب التكاثر والتفاخر بيننـا أردى الحكيم وثاقب الأفكار
حب الرئاسة والمظاهر داؤنـا كم أكســــبا من ذلة وصغار
وله شعر جزيل اللفظ، شريف المعنى، سهل الأسلوب، وكان رحمه الله إداريًا ناجحًا متأنيًا في قراره، يعالج الأمور بالحكمة والروية، يحرص على كسب رضا الموظفين من دون إخلال بالعمل، ينصت أثناء الاجتماع، ويستمع إلى جميع الآراء، ثم يقنع الجميع بحكمته ورويته وخبرته بما يحقق المصلحة . ينبه على الخطأ بلطف، ويحيل إلى ما سبق من غير عنف ولا يكدر أحدًا، ولا يقلل من شأن موظف صغير أو كبير، لذا فقد أحسن رحمه الله القيادة وحزم أمر الإدارة، وتميز في رئاسة الحرمين الشريفين وطور العمل فيها، فتحقق في وقته بدعم من خادم الحرمين الشريفين الشيء الكثير في الحرمين الشريفين، مما جعل المعتمرين والحجاج والزائرين يؤدون نسكهم وعبادتهم بكل يسر وسهوله. وله رحمه الله رحلات دعوية متعددة داخل المملكة وخارجها لإلقاء المحاضرات،أو المشاركة في المؤتمرات والمناسبات الدعوية، وافتتاح المراكز الإسلامية. له إسهام مميز في الدعوة إلى الله ورسوله بالحكمة والموعظة الحسنة والدعوة إلى الوسطية والتسامح والاعتدال، ويؤكد ذلك في خطبه في المسجد الحرام، وإجاباته على الأسئلة ولقاءاته، له رأي حصيف ومكانة خاصة، يحبه من يتحدث إليه، ويقتنع السامع بما يطرحه.
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والبحر ساحله
شريف النفس محمود السجايا عريق الأصل في المعروف أوحد
اللهم أغفر لسماحة شيخنا ووالدنا الشيخ محمد بن عبد الله السبيل، وارحمه وأسكنه فسيح جناتك، واجزه عني وعن طلاب العلم والمسلمين خير الجزاء، وارفع درجاته في الآخرة، واجعل ما قدمه في موازين حسناته يوم القيامة، واجبر مصيبتنا فيه، وإنا لله وإنا إليه راجعون» .
المصدر : صحيفة الوئام الإلكترونية: 5/2/1434هـ 18/12/2012م .