الشيخ محمد السبيِّل رحمه الله
إمام أئمة الحرم وشيخهم
د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
« رحم الله معالي الشيخ الوقور الورع العالم الفقيه، صاحب التواضع، طيب القلب، لطيف المعشر، إمام الحرم وخطيبه ومدِّرسه محمد بن عبدالله السبيل رحمة واسعة، وجزاه عن أمة محمد e خير الجزاء وأوفاه. ارتبط اسمه في السنوات الماضية بأثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء، فكان صوته الواضح البين لا تختلف في معرفته الآذان، من كثرة ما يردد قراءة قوله تعالى: )إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا( وقع في قلبي أن هذا الشيخ الإمام لا يفتر لسانه من صلاته على رسوله e فأسأل الله أن يحشره معه، وأن يسقيه من حوضه. قبل سنين عديدة حين كنتُ في مرحلة المتوسطة أو المرحلة التي تليها أذهب لأسلم على هذا الشيخ الوقور رحمه الله، فكان بعض الحرس وهم قلةٌ اثنان أو ثلاثة يردُّون الناس؛ لئلا يؤذون الشيخ، فكنتُ أمد يدي إليه فيبادر بمد يده، فلما رأيتُ تواضعه -وأنا حينها من الغلمان الحزاورة- سألته غفر الله له عن طواف الوداع للمعتمر هل هو واجب عليه؟ فقال: نعم واجب، ولم يكتفِ بذلك بل ذكر الدليل على قوله، وأخبرني أنه صحيح وهو ما جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض)، مع أني في تلك المرحلة أحتاج لفتواه فقط، فإذا ناقشتُ أحدًا ممن هو مقارب لي في السن قلت : إمام الحرم الشيخ محمد السبيل يقول: يجب طواف الوداع لمن أراد أن يغادر مكة. فجعلته دليلًا رحمه الله .
بعد مدة تعرفتُ على شيخنا الوقور الخلوق العالم عمر بن محمد السبيل رحمهما الله وأظلهما الله في ظل عرشه، ففرحتُ أن هذا العالم سيخلف هذا العالم في المسجد الحرام، حين رأيتُ من سمته وهديه وعقله وسكينته ووقاره ما يفرح بوجوده في هذا الزمان وأن يكون مثلهم إماما للحرم، فالشيخ عمر قد تربى في مدرسة والده وصحبه، وأخذ من خُلقه الشيء الكثير. أذكر مرة بعد صلاة العصر في يوم الجمعة 28-1-1420هـ في الحرم رأيت الشيخ عمر رحمه الله يطوف وكان دائما يفعل ذلك بعد صلاة العصر حين يؤم الناس، فسلمتُ عليه وقلت له: أحسن الله عزاءكم في سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله وجعلكم خير خلف لخير سلف فقال: هذه تقال للشيخ محمد بن عثيمين، أما نحن فضعفاء الله يرحم حالنا.
وكان الشيخ عمر من صبره وتواضعه وحرصه على نشر العلم وتعليمه يواعدني عند باب الصفا في الحرم بعد صلاة الظهر أيام الإجازة غالبًا؛ لأقرأ عليه بعض المتون، وفي آخر مرة قال لي رحمه الله: المرة القادمة تأتي وأنت حافظ لملحة الإعراب، فقد كان مشايخنا يشرحونها لنا وهي جميلة سهلة، كقول الناظم:
أو كان أمرا ذا اشتقاق نحو قل ومثله ادخل وانبسط واشرب وكل
ثم قال: على ذكر الأكل والشرب تغدّ معي فاعتذرتُ فأصر وقال: ما عندي شيء، فاعتذرتُ حفظًا لوقته غفر الله له.
عودًا على بدء كنتُ فرحا جدًا بخليفة الشيخ محمد في الحرم؛ لأن إمامة الحرم ليست مجرد صوت حسن بل لابد من فقه وعلم وعقل وأناة مع ورع ودين، وهي بإذن الله مجتمعة في أئمة الحرمين زادهم الله توفيقًا.
لما توفي الشيخ عمر صلى عليه والده الشيخ محمد، وكان رابط الجأش قوي النفس، صابرًا محتسبًا غفر الله لهما ورحمهما، ولا أظن أن أحدًا ينسى ذلك اليوم المهيب حين خطب الناسَ الشيخُ محمدُ يوم الجمعة 28-1-1420 وأمَّهم وصلى بهم على جنازة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، فكانتُ خطبته مؤثرة، وأذكر أنه حين قال في خطبته:( عالم الأمة، وإمام أهل السنة والجماعة في هذا العصر، علامة زمانه، وفقيه أوانه، الداعية إلى الله على علم وبصيرة المجاهد في سبيل الحق والهدى سماحة العلامة الجليل الشيخ عبد العزيز بن باز ) ضج الناس في الحرم بالبكاء .
وكذلك أمَّ الناس في الصلاة على العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله.
جمعهم الله جميعًا ووالدينا ومشايخنا وأهلنا في الفردوس الأعلى.
ذهبتُ مرة للشيخ محمد رحمه الله في غرفته في الحرم بعد صلاة التراويح في 17-9-1426هـ فسلمتُ عليه، وطلبتُ منه أن يجيزني في المد النبوي، فرحب ودعا لي، وقال: أبشر، وأجازني، وأرسل المد والإجازة وبعض كتبه رحمه الله مع حفيده الشيخ أنس بن عمر بن محمد، غفر الله لهم جميعًا، ووفق الشيخ أنس لكل خير وجعله خلفًا لأولئك الكبار، وكان من وصيته في إجازته لي ما نصه: (أجيزه أن يروي عني مؤلفاتي كلها.. موصيًا إياه بتقوى الله تعالى في السر والعلن والاعتصام بالكتاب والسنة والسير على نهج السلف الصالح في الاعتقاد والعمل مع التحلي بالآداب الشرعية والأخلاق المرعية وأن لا ينسانا من دعواته الصالحة) فكل ما ذكرتُ هذه الوصية العظيمة دعوتُ الله له، وأسأل الله يقبل ما دعاه المسلمون لمعاليه غفر الله له.
بعد كتابتي لبحث الماجستير )أحكام الصوت( تعجَّب الشيخ من عنوان الرسالة، وطلب أن يرى البحث، وهذا من تواضعه غفر الله له، فأرسلتُ إليه بنسخة منه، وكان هذا قبل طباعته.
حضرتُ المحاضرة التي ألقاها في دارة الملك عبدالعزيز بالرياض، وقد تحدث عن حادثة الحرم الإجرامية عام 1400هـ وكيف خرج من الحرم، وكيف كانت الحادثة، بعد المحاضرة أخذ جولة في الدارة لرؤية المخطوطات، فكان منها جزء من مخطوط يتعلق بالإنصاف للمرداوي معروضًا، فكان مما قاله وحفظته منه: (أنه قد استدرك ما سقط من الإنصاف وصحح الكلمات وقال: إن المطبوع فيه أغلاط كثيرة). فليت تلك الاستدراكات تخرج في جزء لطيف ينتفع به المتخصصون.
أمَّ الشيخ في الحرم ما يقارب نصف قرن، وكان الحرم في بعض السنوات دائرةٌ رحاه بينه وبين الشيخ عبدالله الخليفي رحمه الله.
ذهب الشيخ إلى بلدان كثيرة من شرق الأرض وغربها؛ للدعوة إلى الله وبيان حق الله على عبيده من توحيده وإفراده بالعبادة .
كان عضوا في هيئة كبار العلماء، وعضوا في المجمع الفقهي، ورئيسًا لشؤون الحرمين، وكانت خطبة عيد الفطر من اختصاصه سنوات عديدة. ألَّف كتبًا ورسائل عديدة، وخطبه التي يخطب بها على منبر الحرم مجموعة مطبوعة وبعض رسائله في مسائل معاصرة كأخذ الجنسية من دولة غير مسلمة .
درَّس في البكيرية ثم في المعهد العلمي ببريدة، ثم انتقل بعد ذلك إلى مكة. كان حافظًا لكتاب الله، عالمًا بسنة رسول الله e ، مناصرًا للسنة وأهلها، داعيًا إلى الله على بصيرة، أحسبه كذلك والله حسيبه، فاللهم اغفر لشيخنا وشيخ الحرم اللهم ارحمه، وأحسن عزاء الأمة فيه، واخلف لنا خيرا، واجبر مصاب أهله وأولاده ومحبيه، اللهم لا تفتنا بعده برحمتك يا أرحم الراحمين».
المصدر : جريدة الجزيرة، يوم السبت 9/2/1434هـ العدد : 14695 .