السبيل.. السيرة الطيبة
معالي الدكتور سهيل بن حسن قاضي مدير جامعة أم القرى سابقًا.
« ودّعنا إلى مثواه الأخير فضيلة الشيخ الجليل محمد بن عبدالله السبيل – الرئيس العام لشؤون الحرمين الشريفين، وإمام وخطيب المسجد الحرام، وعضو هيئة كبار العلماء سابقا، تاركًا وراءه السيرة الطيبة التي سجلها طوال حياته العملية، التي بدأها بتدريسه في المعهد العلمي ببريدة لمدة ثلاثة عشر عامًا، قبل انتقاله إلى مكة المكرمة ..كل من عرف الشيخ محمد يذكره بالخير، فهو مثال للإمام الورع، وكان منارة للعلم، ومثالًا للوسطية والاعتدال، كما وصفه سمو أمير منطقة مكة بذلك، تراه دومًا هاشًا باشًا مع الآخرين، ويتمتع بدماثة خلقٍ، فلا تسمع منه ما تكره. كان رحمه الله يحب المداعبة، ومستمعا جيدا للنكات، ولكنه لا يرويها. حدثني عنه عالم كبير من علماء باكستان الشيخ محمد موسى البازي – يرحمه الله – وكان يقضي شهر رمضان في مكة المكرمة، ويلتقي دومًا بالشيخ محمد السبيل، ويدور بينهما حوارات في موضوعات شتى، كان يقرأ كتب الشيخ البازي ويناقشه فيها. كان الشيخ البازي يسعدنا من وقت لآخر في قبول دعوة الإفطار أو السحور، وهو الذي عرّفنا عن الشيخ السبيل، وسماحته، ولطفه، وتقبله للآخر، وقد لاحظت يوم أداء واجب التعزية في وفاة الشيخ في داره وفدًا من باكستان، وعلماء آخرين من جنسيات مختلفة، وبدا عليهم علامات التأثر البالغ لوفاته يرحمه الله. بيني وبين فضيلة الشيخ محبة خاصة، أعرفها جيدًا، وأكّدها لي أبناؤه يوم العزاء، وقد قبل فضيلته دعوتي في المنزل، لمناقشة بحثه في تحديد بدء الطواف، وضرورة وجود الخط على الأرض كمؤشر، وتفضل أخي السيد أسامة البار – عميد معهد خادم الحرمين لأبحاث الحج آنذاك بشرح الفيلم الوثائقي عن الازدحام الذي يسببه الخط في الأرض، وفقًا لرصد كاميرات معهد الأبحاث، وفي أوقات مختلفة، وأبدى الشيخ السبيل تفهمًا لما يحدث. بعد عودتي من الولايات المتحدة في أعقاب رحلة علاجية استغرقت 3 شهور، فاجأني الشيخ بمهاتفة يرغب في زيارتي بالمنزل في العوالي؛ لأنه لم يعلم عن وصولي إلا ذلك اليوم، ورغم إصراري للمجيء إلى داره في نفس الحي، إلا أنه أصر على المبادرة، وبعد صلاة العشاء شرفني بزيارته، وبدأ حديثه بالسؤال عن صحة الوالدة كما هو دائمًا عادته، وقال نسأل الله أن يمد في حياتها؛ لأن وجودها معناه أن هناك دعاء لا ينقطع لكم في ظهر الغيب، واستشهد بمثل شعبي بما معناه (إللي ما عنده أم.. حاله يغم). ثم جاء المضيف يقدم له بعض المرطبات وكان من بينها السوبيا، وعندما وقع اختياره على شيء آخر أراد المضيف المغربي أن يستعير بعض المداعبات، التي شاهدني أستخدمها مع بعض ضيوفنا؛ لتشجيعهم على السوبيا من خلال التعليق الساخر، بأن هذه السوبيا (معتقة ولها سنة)، ولم يكن يعلم أنها مداعبة، فأصبح يكرر على الشيخ، وكان يقابل الأمر بالابتسامة.
في مؤتمر المنظمة الإسلامية للثقافة والعلوم المنعقد بالرياض باستضافة وزارة التعليم العالي، هاتفني معالي الدكتور/ خالد العنقري عن إمكانية الحصول على قطع للكسوة الشريفة؛ لإهدائها لرؤساء الوفود، فنقلت الرغبة إلى معالي الشيخ محمد، ووجه بعشرين قطعة، ولكن اللجنة المنظمة للمؤتمرات رأت حجبها؛ لعدم كفاية العدد، وأبلغت الشيخ بأن الحاجة تقضي بتوزيع الهدايا بالتساوي بين رؤساء الوفود، وبعث بعشرين قطعة أخرى، ورسالة شخصية مع أحد أبنائه، يخبرني أنها المرة الأولى التي يوزع فيها هذا العدد، وفعلتها تقديرًا لشخصك وشخص معالي الوزير، وقد لقى ذلك الإهداء الفريد من نوعه ارتياحا بالغًا، وفي نفس المؤتمر اختير الدكتور/ عبدالعزيز التويجري رئيسًا للمنظمة بالتزكية، ولفترتين متتاليتين، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ المنظمة. وفي الختام أذكر بأن معالي الشيخ محمد أكرمه الله بأنجال بررة، بعضهم في مجال القضاء، وبعضهم في التدريس بجامعة أم القرى، وكان من بينهم ذلك الرجل الذي لا ينسى فضله د. عمر السبيل- متعه الله بالجنة- وقد سعدت برؤية ابنه أنس، يوم تقديم العزاء. رحم الله الشيخ محمد السبيل، ومتعه بجنات النعيم، وربط على قلوب أهله ومحبيه.. وفي جنة الخلد إن شاء الله».