فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله السبيِّل
إلى رحمة الله
عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف .
تبلى الحناجر تحت الأرض في جدث وصوتها يتلو الآيات والســـور
ما من شك أن فقد العلماء الأفاضل يحدث فراغًا وفجوة واسعة في الإسلام وبين أهله يتعذر ردمها، ولاسيما من تعلقت قلوب الناس بهم، والذين ترووا من حياض العلوم الصافية النافعة، ومن لهم باع طويل في نشر العلم، مع تلاوة القرآن الكريم مرتلًا ومجودًا، سواء حضوريًا أو عبر الوسائل الحديثة؛ لينير أفئدة السامعين والمتلقين له، في مشارق الأرض ومغاربها، أمثال فضيلة الشيخ العلامة محمد بن عبدالله السبيل، إمام وخطيب المسجد الحرام، الذي انتقل إلى دار النعيم المقيم - إن شاء الله - عصر يوم الاثنين 4-2-1434هـ، وصلي عليه بعد صلاة عصر يوم الثلاثاء 5-2 بالمسجد الحرام، ودفن بمقابر العدل مجاورًا للشيخين عبدالعزيز بن باز، ومحمد بن عثيمين:
مجاور قــــوم لا تزاور بينهم ومن زارهم في دارهم زار همدا!
مأسوفًا على رحيله وغيابه عن أسرته ومحبيه، بعد عمر مديد نيف على التسعين سنة، حافلة بالعطاء في مجال العلم والدعوة وإمامة المسلمين، في أطهر بقعة من بلاد الله، وفي مدة تربو على أربعين عامًا، وكان قد لازم السرير الابيض مدة طويلة بمستشفى الحرس الوطني بجدة، إلى أن استوفى نصيبه من أيام الدنيا - تغمده الله بواسع رحمته - وقد ولد عام 1345هـ بمحافظة البكيرية إحدى كبريات مدن القصيم، بلد العلماء وخطباء المساجد، الذين نالوا الشهرة في هذه الأزمان، وقد تعلم على يد والده وعلى يد الشيخ عبدالرحمن الكريديس، وحفظ القرآن الكريم وهو في سن الرابعة عشرة، وأتقن التجويد على يد المقرئ سعدي ياسين - رحم الله الجميع- ثم استمر في تلقي العلم على الشيخ محمد المقبل، كما أخذ عن أخيه الشيخ عبدالعزيز السبيل، كذلك لازم سماحة الشيخ عبدالله بن حميد رئيس محكمة بريدة فترة من الزمن، ثم تأهل للتدريس في المساجد، وبالمعهد العلمي في مدينة بريدة 1373هـ، وكان تلقيه العلم على أيدي أولئك العلماء سببا قويا في ترسيخه في ذهنه، وحفظ القرآن الكريم في قلبه ساعد على تفوقه على أقرانه، وفي عام 1385هـ عين إماما وخطيبا في المسجد الحرام، ورئيسًا للإشراف الديني والمدرسين في الحرم المكي، وفي عام 1411هـ صدر الأمر السامي بتعيينه رئيسا للرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، كما عمل في هيئة كبار العلماء، وعضو المجمع الفقهي الاسلامي في شؤون الحرمين، وكان صوته مؤثرًا جدًا حينما يتلو القرآن الكريم، مرتلًا، ومستحضرا الخشوع عند آيات الوعد والوعيد، وكم رددت أصداء صوته أروقة المسجد الحرام..، كما أن صوته أثناء إمامته بالمصلين، وفي صلوات التهجد عبر الإذاعة والوسائل الحديثة الأخرى شجيا، يسبق ضوء الشمس التي تشرق على الكون، وعلى أنحاء الدنيا وآفاقها، فيسمعه ملايين المسلمين في تلك البقاع النائية، ولسان حاله - يرحمه الله - يردد هذا البيت الذي فيه رائحة المعنى:
فإن كانت الأجسام منا تباعدت فإن المدى بين القلوب قريب
وقد بارك الله في علمه وعمره، فكله علم وأدب محترم أينما حل وسار:
لا يأمن العجز والتقصير مادحه ولايخاف على الاطناب تكذيبا!
فهو على جانب من الذكاء والفطنة وحضور البديهة، وعدم التردد والتريث في إنجاز بعض الأمور التي قد تعترضه..، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:
فربما فات قومًا جل أمرهم من التأني وكان الحزم لو عجلوا!
ولي معه - رحمه الله- بعض الذكريات التي لا تنسى، منها أثناء استضافته في ثلوثية الدكتور الكريم محمد بن عبدالله المشوح في مدينة الرياض مساء يوم الثلاثاء 4-11-1423هـ الذي يُحسن انتقاء واختيار ضيوف أمسيته في صالونه الأدبي كثير الحضور من العلماء والأدباء والوجهاء؛ لما يطرح فيه من موضوعات شيقة، وتكريم للمتميزين علمًا وأدبًا وبذلًا في أوجه البر والإحسان، وهذا من نعم الله على صاحب المنتدى، وقد أحيا فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله السبيل - رحمه الله - تلك الأمسية بالحديث عن بعض ذكرياته، وعن الأعمال المنوطة به في خدمة المسجد الحرام والكعبة المشرفة، وعن عناية ولاة أمر هذا البلد، والسهر على راحة الحجاج والمعتمرين، وعن التوسعات الهائلة للحرمين الشريفين، كما أني أسعد بزيارته عند حضوري إلى مكة المكرمة في مكتبه برئاسة شؤون الحرمين، وزيارة الصديقين الكريمين الدكتور محمد بن ناصر الخزيم نائب الرئيس، والأستاذ الفاضل محمد بن عبدالكريم القويفلي المستشار الخاص بالرئاسة، فأجد منهم حسن الاستقبال والحفاوة التامة، فالذكريات معه تتكرر سنويًا وبعض العاملين معه، وقبل ختام هذه الكلمة الوجيزة أكرر هذا البيت داخل نفسي:
سلام على القبر الذي ضم أعظما تحوم المعالي حولها فتســـلم
جزاه الله عن المسلمين خير الجزاء، وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه وأبناءه وبناته وزوجاته ومحبيه الصبر والسلوان».
المصدر : جريدة الجزيرة،يوم السبت 9/2/1434هـ العدد : 14695 .