الشيخ محمد بن عبدالله السبيل" رحمه الله "
محمد بن عبدالله المشوح.
« حينما نعى الديوان الملكي معالي الشيخ محمد بن عبدالله السبيل تداعت لي ذكريات عديدة مع هذا العلم الأصيل رحمه الله. ففي أيام دراستي الثانوية والجامعية، وفي أثناء قدومنا للحرم الشريف لأداء العمرة خصوصا في شهر رمضان، كان صوته المميز وتلاوته غير المتكلفة تهز جنبات الحرم المكي. وكانت صلاة العشاء تحديدًا التي أسندت إليه منذ سنوات طويلة، يترقب الناس فيها تلاوة أدائه الرخيم. جمعتني بالشيخ رحمه الله مجالس عديدة منذ سنوات، حيث كنت لا أتردد بلقاء فضيلته إبان إمامته للحرم ورئاسته لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي. وأذكر أنه في سنة 1419هـ كنت أقدم برنامجا إذاعيا معروفا في إذاعة القرآن الكريم «في موكب الدعوة» وزرته في مكة، وطلبت منه رحمه الله لقاء مطولا عن حياته وسيرته، بعد أن انصرفنا سويًا من صلاة العشاء في المسجد الحرام. فاحتفى بي كثيرًا كعادته مع الآخرين بما وهبه الله من خلق كريم وسجايا حميدة، أجمع الناس عليها، وابتسم لي ابتسامة الوالد لابنه، معتذرا بأن ليس لديه ما يحسن قوله وبيانه. وقال عليك بالعلماء الكبار الذين يستفيد الناس منهم، مع أنه عضو في هيئة كبار العلماء وغيرها من المجامع الفقهية الكبرى، لكنه التواضع الذي طالما التحف به في حياته رحمه الله. وكانت علاقته مع العم الشيخ حمد المشوح، وكلاهما من تلاميذ سماحة العلامة الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله علاقة متميزة، فقد عملا مدة طويلة ناهزت ثلاثين عاما، كما كانت طريقا لي لود كبير جمعني به. لقد غادر الشيخ محمد السبيل رحمه الله بريدة إلى مكة بترشيح خاص من شيخه الشيخ عبدالله بن حميد؛ ليكون إمامًا للحرم المكي الشريف سنة 1385هـ. وقد سبقه الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله تعينا سنة 1384هـ، وقد أقام الشيخ محمد بن سبيل سنوات عديدة في بريدة مدرسًا وإمامًا. فقد أم في عدد من مساجد بريدة وهما مسجد الدبيب، حيث أم فيه من 1377هـ حتى 1382هـ، ثم انتقل إلى جامع الأمير عبدالله الفيصل «الجردان» سنة 1382هـ حتى عام 1385هـ. ومن اللطائف في ذلك أن كلا من المسجدين توليت الإمامة فيهما أيضًا، ولكن بعد ذلك بأكثر من خمسة وثلاثين عاما. كما أنه قام بالتدريس في معهد بريدة العلمي عدة سنوات، إبان إدارة شيخنا العلامة محمد العبودي للمعهد. كما شرفت بدعوته إلى الثلوثية يوم الثلاثاء 4/11/1423هـ وتحدث في تلك الليلة بما يفيد الناس وينفعهم. كما أشار إلى عدد من محطات حياته في إمامته للحرم المكي الشريف التي ناهزت أربعين عامًا، وبعض المواقف التي تعرض لها، والتي كان من أبرزها فتنة جهيمان سنة 1400هـ، حيث كان هو الإمام في صلاة الفجر في ذلك اليوم. لقد وهب الله الشيخ محمد السبيل أخلاقًا عالية، استطاع من خلالها أن يدلف إلى قلوب الجميع خاصة أهل مكة كبيرهم وصغيرهم. وكان قريبًا من الجميع في مناسباتهم وأفراحهم وأحزانهم، وكانت ابتسامته التي لا تفارقه معبرة بوضوح عن تفاؤله وصفاء سريرته. وقد شرفت أبضًا بالتقديم لمحاضرة لمعاليه في دارة الملك عبدالعزيز سنة 1423هـ وإدارة الحوار بينه وبين الحضور. وكانت المحاضرة في قصر المربع الشهير. ثم شرفت لاحقًا بالجلوس مع فضيلته مجالس عديدة في حضرة شيخنا العلامة محمد العبودي، حيث ارتبطا بصداقة قديمة جميلة خالصة. وكان كلما قدم إلى الرياض قام بزيارة للشيخ محمد العبودي، ويتذاكران أخبار العلماء والأقران وبعض المسائل العلمية والتاريخية، وكان ثالثهم الذي يأنسون به كثيرًا الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل رحمه الله. وأذكر أنه في يوم الجمعة: 6/11/1422هـ دعا شيخنا محمد العبودي حفظه الله صديقه فضيلة الشيخ محمد السبيل رحمه الله بحضرة الشيخ عبدالله بن عقيل رحمه الله، وكانت ليلة حافلة بالمناقشة والمطارحات العلمية والتاريخية، استمرت أكثر من خمس ساعات متواصلة. كان يظهر بين الثلاثة ود عجيب، وألفة قديمة، وود صادق، وقد أسهب شيخنا محمد العبودي في ذكر الكثير من ذكرياته مع الشيخ محمد السبيل وصداقته معه في كتابه المخطوط «معجم أسر البكيرية».
لقد عاش رحمه الله في نفع عظيم للناس، مشاركًا في كل محفل أو جمعية أو منشط فيه نفع للناس، مثل جمعية تحفيظ القرآن وجمعية الراغبين في الزواج. وكان لوجوده أثر في ثقة الناس وتدفق الدعم لهم؛ لما يحظى به من تقدير بالغ لدى الجميع. وكانت آخر صلاة له في المسجد الحرام إماما هي صلاة العشاء في 11 ربيع الأول سنة 1428هـ. ومن أبرز وجوه ومعالم شخصيته رحمه الله ذوقه وحسه الأدبي، وهو ما يلحظه من يقرأ خطبه ويستمع إلى أحاديثه، فهو متقن للغة، درّس مددًا وأزمنة طويلة ألفية ابن مالك وغيرها من متون النحو والعربية. كما أنه يحمل ذائقة شعرية بل إنه شاعر متميز، له ديوان سبق طبعه، إضافة إلى قصائد ومراث عديدة. أشهرها مرثيته المؤثرة في والده عبدالله السبيل وشقيقه وشيخه الشيخ عبدالعزيز السبيل- رحمهم الله- وغيرهما كثير.
رحم الله الشيخ محمد السبيل، وأسكنه فسيح جناته، وبارك في عقبه وأنجاله، إنه سميع مجيب».
المصدر : جريدة عكاظ: 8/2/1434هـ 21/12/2012م، العدد: 4205 .