معالي الشيخ محمد السبيل
صاحب المواقف المشرفة
. ماجد مسعود محمد سليم رحمت الله.
فقد العالم الإسلامي على وجه العموم والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص علمًا بارزًا، مشهورًا، معروفًا، من أعلام التربية والتثقيف والتهذيب والسلوك المحمود والسيرة الحسنة، وعالمًا من علماء الدين والقرآن الشريف والعلم والدعوة والإصلاح والحكمة والتبليغ والوسطية والإتلاف والترابط، ألا وهو العالم العلامة الفهامة الحَبر البحر الصالح الناصح الإمام الخطيب معالي الشيخ محمد عبدالله السبيل – تغمده الله برحمته الواسعة ورضوانه الشامل، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وجزاه الله خيرًا على ما قدم للإسلام والمسلمين عامة، والحرمين الشريفين خاصة من جهود وخدمات ونشاطات وتضحيات – وعوض المسلمين خيرًا منه آمين .
والحديث عن معاليه وآدابه وسلوكه وأعماله وسيرته ونشاطاته حديث طويل متشعب. كيف لا وهو إمام الملايين من المسلمين والمسلمات، الذين أدوا وأقاموا الصلاة خلفه خاصة في المسجد الحرام في مكة المكرمة، وفي بعض مساجد العالم التي زارها – وتلك مزية عظيمة وخصلة خاصة ورتبة عالية ودرجة متميزة، خصها الله تعالى أئمة وخطباء الحرمين الشريفين، الذين حظى ويحظى كل واحد منهم أن يصلى خلفه ملايين البشر من المسلمين كل يوم ولية وأسبوع وشهر وعام، حيث يكتظ الحرمان الشريفان والمسجدان المعظمان بالملايين، خاصة في المواسم المزدحمة وصلوات الجمعة والعيدين، فهؤلاء الملايين يتذكرون هذا الإمام الجليل، والخطيب العظيم، بالذكر الحسن، والثناء العظر، والدعاء له بالمغفرة والرحمة والرضوان، وما ترك من آثار عظيمة خاصة في زياراته للعديد من الدول، وعلى رأسها الهند وباكستان.
حينما جرى نقل معاليه من بريدة إلى مكة المكرمة في عام 1385هـ ليكون رئيسًا للمراقبين والمدرسين بالمسجد الحرام وإمامًا وخطيبًا، كان المسجد يكتظ بحلقات الدروس الكثيرة في أرجاء المسجد الحرام، باللغات العربية والأردية والإندونيسية والمليبارية وغيرها وكذلك بالمواعظ.
وكان المدرسون في الحرم الشريف من علماء ومتخرجي المدرسة الصولتية بمكة المكرمة وهم: العلامة الشيخ حسن محمد المشاط، والشيخ علي سعيد اليماني، والشيخ عبدالله سعيد اللحجي، والشيخ محمد عوض منقش الزبيدي، والشيخ إسماعيل عثمان الزين، والشيخ عبدالفتاح راوه، والشيخ عثمان محمد سعيد تنكل، والشيخ زكريا عبدالله بيلا، والشيخ محمد ياسين الفاداني وغيرهم، والشيخ محمد نور سيف، والسيد محمد أمين كتبي، والسيد علوي عباس المالكي، والشيخ عبدالله دردوم وغيرهم من مدرسة الفلاح، والشيخ عبدالقادر منديلي، والشيخ طه البركاتي، والشيخ خير محمد الباكستاني، والشيخ عبدالحق الهاشمي، والشيخ محمد أمين مرداد، والشيخ محمد علي الصابوني، محمد محمود الصواف، والشيخ محمد المنتصر الكتاني الفاسي، وغيرهم كثيرون رحمه الله جميعًا- فكان معالي الشيخ محمد السبيل على اتصال واجتماع ولقاء دائم بهم؛ لما لهم من مكانة وعلم وفضل ورتبة. وكانت حلقات الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمكة المكرمة أيضًا في المسجد الحرام، وكان رئيس الجماعة معالي الشيخ محمد صالح القزاز ومعه كثيرون من المكيين المساندين، كما أن من مدرسي وطلاب التحفيظ مدرسون في المدرسة الصولتية وطلابها، وأذكر مرة من المرات أن العلامة المحدث الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي شيخ الحديث بمدرسة مظاهر العلوم في سهارن بور في الهند ومؤلف الكتب الكثيرة خاصة في علم الحديث الشريف -(اللامع الدراري شرح صحيح البخاري، وبذل المجهود على سنن أبي داود، وشرح الترمذي وحجة وعمرات النبي وغيرها)- قدم إلى مكة المكرمة لأداء مناسك العمرة والحج، وأقام بالمدرسة الصولتية على عادته القديمة – فقام معالي الشيخ محمد السبيل بزيارة للمدرسة الصولتية، حيث تجول في فصولها، والتقى بعلمائها، وبمدرسيها، واطلع على المناهج والمقررات التي كانت تدرس بالمدرسة الصولتية – وقد سبق لمعاليه الاتصال بوالدي وجدي والالتقاء ببعض المدرسين؛ لمعرفة تاريخ المدرسة وما يدرس فيها من علوم ومقررات، حيث إن سماحة الشيخ عبدالله بن حميد – رحمه الله – قد سبق له الاطلاع على مناهج ومقررات وكتب المدرسة الصولتية للاستفادة في مقررات ومناهج معهد الحرم المكي الشريف، حيث افتتح فيه القسم العالي أسوة بالقسم العالي في المدرسة الصولتية.
وكان معالي الشيخ محمد السبيل – يرحمه الله – دائمًا يسأل عن المدرسة وأساتذتها وطلابها، وكلما زاره أو لقيه أحد منسوبي الصولتية يسأل عنها وعن أحوالها. ومن مواقفه الشريفة التي لا تنسى تقديم التبرعات والمساعدات لطلاب المدرسة المحتاجين في شهر رمضان من كل عام، حيث كانت التبرعات تصله من قبل المحسنين لتوزيعها في مكة المكرمة، خاصة على طلاب العلم، ويشهد بذلك الشيخ محمد السيلاني أحد منسوبي معهد الحرم الشريف.
وكانت له يرحمه الله خلوة في المسجد الحرام على يسار الداخل من باب الملك عبدالعزيز، ويقصده كثير من الزوار وأهل العلم ومجالسته، وكان لي شرف الحضور في هذه الخلوة المباركة بعد المغرب إلى العشاء عدة مرات والحمد لله، فرأيت العلماء والأعيان والأعلام والمشاهير .
ومما أتذكره في هذه المجالس قدوم بعض الناس بجوالين وقوارير ماء زمرم، فكان الشيخ يقرأ عليها وينفث وينفخ فيها، ويستفتيه بعض الناس فيفتي لهم بالتيسير والتسهيل والتسامح واللين، ومنهم من يسلم عليه ويخرج، ومنهم من يطيل الجلوس معه إلى ما قبل صلاة العشاء، للاستماع إلى مواعظه ونصائحه وإرشاداته – بجانب مسؤوليات ومهمات الحرم الشريف وقدوم الموظفين والعاملين إليه للإخبار والإعلام والاستشارة.
وكانت له – يرحه الله – مواقف مشهودة في مكة المكرمة ومع أهلها وسكانها ومقيمها وجمعياتها ومؤسساتها ومدراسها المختلفة، فكان يتعامل معهم بكل رفق وحب وود واعتدال وعطف وتسامح وتيسير وتسهيل . فكسب بسبب ذلك مقامًا عظيمًا ومرجعية كبيرة في مختلف الأمور والمعاملات والوساطات لدى مختلف الجهات المختصة.
أما أخوه الشيخ عبدالرحمن السبيل فقد كان مفتشًا في إدارة التعليم بمكة المكرمة، وكان يزور المدرسة الصولتية لتفقد فصولها ودروسها وحلقاتها ومدرسيها، فكان يجلس مجلسًا طويلًا في المدرسة ويستمتع بمشاهدة المدرسة مع والدي وجدي للتباحث في أمور المدرسة، وما يتعلق بها – وكان يبلغ أخاه معالي الشيخ بما رآه وشاهده بالمدرسة -.
ومن مواقفه المشرفة تجاه المدرسة الصولتية اجتهاده وسعيه بعد صدور قرار مجلس الوزراء في عام 1414هـ بضم جميع المدارس الأهلية للبنين والبنات إلى ملاك وزارة المعارف ورئاسة تعليم البنات؛ حيث تفضل معاليه بالكتابة إلى مقام خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود – يرحمه الله – في عام 1415هـ والتوسط باستثناء ضم المدرسة الصولتية إلى ملاك وزارة المعارف – ونوه رحمه الله في خطابه بمكانة المدرسة وعطائها وتاريخها ودورها – وقد سبق للمقام السامي أن تكرم بالموافقة على استثناء مدراس الفلاح، ومدرسة دار الفائزين، ودار الحديث الخيرية، ومدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة من ضمها إلى ملاك وزارة المعارف- فصدرت موافقة نائب رئيس مجلس الوزراء آنذاك حضرة صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز بتوقيع حضرة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز باستثناء المدرسة الصولتية من ضمها للوزارة؛ تقديرًا لوضعها الخاص؛ أسوة بالمدارس الأخرى المستثناة. ولا تنسى في هذا الشأن مساعي وجهود أصحاب المعالي الشيخ محمد عبده يماني والشيخ أحمد يوسف زنيل والشيخ إسحاق عزوز رحم الله الأموات منهم وحفظ الأحياء.
وإذا كان معالي الشيخ محمد السبيل يذكر بهذه المواقف المشرفه له فإن شيخه العلامة سماحة الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله و غفر له وأعلى درجاته - أيضًا لا ينسى، وهو الذي كان رئيسًا للإشراف الديني بالمسجد الحرام، ويلقي دروسًا في الحرم الشريف، وكان فقيهًا مشهورًا يفتي على المذاهب الأربعة، ويدعو إلى التعاطف و التآلف و التعاون و التسامح والاعتدال، وينهى عن التشدد والعنف والقسوة والاختلاف والتنازع؛ لما في ذلك من حسن السمعة لعلماء مكة المكرمة والحكومة الرشيدة. وبابه مفتوح للجميع في العمل والمنزل لاستقبال الجميع بدون استثناء، ومثله أيضًا العلامة عبد الله البسام المدرس بالمسجد الحرام، والذي كان يفتي على المذاهب الأربعة في حلقات ودروس المسجد الحرام .
وهذه المواقف المشرفة إن دلت على شيء فإنما تدل على حب معالي الشيخ محمد السبيل العميق لجميع المسلمين، وفئاتهم وجماعاتهم و جمعياتهم وعلمائهم والذين كان يفتح لهم جميعًا أبوابه في العمل و المنزل و الخلوة في المسجد الحرام، فأحبوه و بادلوه الحب والتقدير والإكرام. وبوفاته افتقدوا عالما ً مخلصًا متواضعا ً متقيا ً داعيا ً زاهدا ً صالحا ً ناصحا ً جامعا ً لقلوب المسلمين و أفئدتهم و أجسادهم .
وكانت جامعة دار العلوم ندوة العلماء في لكنو بالهند قد أقامت مؤتمرًا عالميًا عن الفئات الضالة، وعلى رأسها القاديانية الأحمدية، ودعى إلى هذا المؤتمر سماحة الداعية العلامة السيد أبو الحسن علي حسني الندوي الأمين العام لندوة العلماء -يرحمه الله– وكان على رأس المدعوين والضيوف معالي الشيخ محمد السبيل و رافقه في سفره هذا معالي الشيخ محمد بن ناصر الخزيم، وخصص لهما جناح خاص في فندق، كما تشرفت بالحضور في هذا المؤتمر، وكان سكني في غرفة مستقلة بجانب هذا الجناح، وحظيت بمجالسة معاليه وزيارته ومرافقته إلى جلسات المؤتمر في ندوة العلماء في مواكب رسمية، وكان يأتي إليه العلماء والزوار من كافة الطوائف والجماعات والجمعيات لزيارته في الجناح الفندقي، وتقام الصلوات فيكون هو الإمام – وحينما توفي سماحة العلامة السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي في شهر رمضان أعلن في المسجد الحرام عن إقامة صلاة الغائب على سماحته، وكان معاليه هو الإمام – و لا نملك بعد رحيله عن هذه الدنيا الفانية إلا أن نذكر محاسنه ومكارمه و فضائله ومواقفه التي لا تنسى، وما ترك بعده وخلفه من ذكر حسن و ثناء جم وتقدير عظيم - ولم يبق لنا إلا أن نتذكره بالدعاء له بالمغفرة العامة والرحمة التامة والرضوان الأعم والفردوس الأعلى من الجنات – وهي فرصة لغيره ولأمثاله أن يقتدوا ويتأسوا به في معاملاته واعتداله و تسامحه ووسطيته وقربه من جميع فئات وطبقات الناس، خاصة العلماء وأهل العلم وفتحه أبوابه ومجالسه لهم – وإنا لله وإنا إليه راجعون.