د. سعيد عناية الله

 

الإمام الراحل قدوة لشباب أئمة الحرمين

خير ممثل للوسطية

د. سعيد أحمد عناية الله المدرس بالمدرسة الصولتية بمكة المكرمة  .

فقدت الأمة الإسلامية العالم الجليل والفقيه البارز، علمًا من أعلام أمتنا المجيدة، نموذج السلف وقدوةً للخلف، خصوصًا لأئمة الحرمين الشريفين، وهو سماحة الشيخ محمد بن عبد الله السبيل رحمه الله, كان سماحة الشيخ غزير العلم وفير الحلم وسيع الاطلاع خبيرًا بأحوال الأمة مهتمًا بشؤونها حريصًا في حل قضاياها، كما كان خير ممثل للمنهج الوسط الذي يمتاز به علماء خير أمة أخرجت للناس أمة وسط وأمة رحمة للعالمين.

تعرفت على هذا الإمام الجليل أثناء عملي في شؤون التدريس بالمسجد الحرام، كمترجم ومراقب، مع عملي في التدريس بالمدرسة الصولتية, ولا أزال أحفظ من وصاياه للعاملين في شؤون رقابة التدريس من طلبة العلم, ومنها التحلي بأخلاق العلماء، مع التزين بأدب الخلاف فى ما يساغ فيه الخلاف والاحترام للرأي, والرأي الآخر لأئمة الهدى أهل الاجتهاد، مع عدم إثارة الخلافات التي تسبب النزاعات والشقاق فى الأمة, ليكون المسجد الحرام منبرًا لنشر الثقافة العلمية المعروفة لدى علماء الأمة سلفًا وخلفًا, فإنّ الأمة لا تتوحّد بتوحيد الرأي الاجتهادي فيما يسع فيه التعددية، لكنها توحّدت في الماضي منذ خير القرون, وتتوحّد الآن وفي المستقبل بتوحيدها في الأصول مع الاحترام بالرأي, والرأي الآخر فى الفروع, و تذكرت حديث معاليه وحديث ابنه العزيز فضيلة الشيخ عمر السبيل رحمه اللّه فى منزله أثناء مناقشتنا قضية الاختلاف الفرعي، والجهل الذي يسبب الضيق الفكري الموصل إلى النزاعات، حينما كان رئيسًا لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي, والشيخ عمر كان إمامًا بالمسجد الحرام، وكنا نتحدث حول معالجة هذه القضية، حيث قال رحمه الله: إن الشقاق بين قليلي الثقافة رغم تحمسهم بالتدين, سببه عدم الاطلاع على أسباب الخلاف في الفروع, ثم أجاد ابنه العزيز فضيلة الشيخ الدكتور عمر السبيل فقال: وهو يخاطبني يا شيخ سعيد "إنّ الناس أعداء لما جهلوا" وزاد قائلًا: إنّ بعض الناس غير مطّلعين على مسالك أهل الحق من أصحاب الاستنباط ومذاهب أهل الاجتهاد, فلا يعرفون سعة شريعتنا، وسماحة ديننا، ووسطية إسلامنا ، ويسيئ مثل هؤلاء إلى الآخرين فى الكلمة بسبب عدم تحليهم بآداب الخلاف، عندما تعددت الآراء الاجتهادية في فروع الدين, ويجهل البعض أساليب التعايش مع الآخرين.

كما شكر الشيخ عمر رحمه الله حسن تربية والده سماحة الشيخ محمد السبيل وقال: لأن سماحة الوالد عالم فقيه مطّلع على آراء الفقهاء المجتهدين في مسائل اجتهادية، وعلى طرق استنباطاتهم، عارف بآداب الخلاف, فتربّي على ذلك، وربّانا نحن أولاده وطلابه وجميع ملازميه في حلقات دروسه ومجال تدريسه. ولا شك أنّ هذه السمة محل تقدير وإعجاب من قبل الجميع، هذه هي الوسطية، وفيها خيرية الأمة, وهو الطريق الوحيد لتوحيد صف الأمة ولم الشمل, ومثل هذا الإمام الجليل قدوة للآخرين، الذين وفقهم اللّه للرقي إلى مثل هذه المناصب و البلوغ إلى مقام المسؤولية.

كان الشيخ محمد بن عبد اللّه السبيل مستأنسا بأهالي أم القرى, ومحببًا لديهم, حينما عيّن إمامًا بالمسجد الحرام, و كان صوته الرنّان منذ ذلك الوقت يعشق إليه أسماعهم, و قد حلي سماحة الشيخ بخصائل حميدة، منها أنه كواجب الإمام المثالي فى هذا المقام العالي و المصلى العظيم كان يستفسر أحوال المأمومين, و عند لقاء أحد كان يسأل دائمًا عن أحوال الآخرين, وإني كلما زرته كان يسأل عن احوال المدرسة والمدرسين, وقد ورث سماحته هذا الخلق من سلفه سماحة الشيخ عبد الله بن حميد رئيس الإشراف الديني بالمسجد الحرام, ومن خصائله الحميدة أنه كان دائم الاتصال مع الأحبة من طلبة العلم، وكان يرد على اتصالاتهم عاجلًا أو آجلًا بكل اهتمام, ومن تواضع سماحة الشيخ السبيل أنه حينما يأتي إلى الحرم لإمامة الصلوات كان يجلس مع عامة المصلين في الصفوف الأول, فنجده وهو يرد على المستفسرين أو يكون مشغولًا في صلاته و أذكاره وأوراده في حجر اسماعيل أو في الحصوة, و هذا قبل التوسعة الجديدة في المطاف, و بعد تعيينه كرئيس لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف كان مرجعًا في مكتبه فى الرئاسة للزوار والشخصيات الدينية, وكان سهل الوصول إليه, أما فى المساء فيجلس فى مكتبه في باب الملك عبد العزيز أو في حجرته في باب الفتح, فيستقبل جميع المراجعين وطلبة العلم والضيوف الوافدين من خارج المملكة، من شتى أنحاء العالم, وقد تشرفت سواء من قبل الضيوف أو من قبل سماحة الشيخ بالتوسط بين الضيف والمضيف كمترجم, فما وجدت أحدًا على مثل هذه المسؤولية صاحب سعة الصدر، مثل هذا الإمام الراحل الجليل .

وفي أيام العطلة أو بعد أوقات الدوام الرسمي كان مرجعًا للزوار والوافدين، سواء في بيته في العزيزية أو في العوالي, وخصوصًا في مجلسه يوم الاثنين بعد العصر حين إقامته بمكة المكرمة.

فكان رحمه اللّه تعالى أول أئمة المسجدين المنيفين منْ سافر خارج بلاد الحرمين الشريفين، كخير ممثل للإسلام، وعالمية هذا الدين، وخير قائم بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالحسنى, سافر إلى شرق العالم وغربه وإلى شماله وجنوبه وإلى البلاد الإسلامية فى آسيا وفي أفريقيا، وزار الاقليات المسلمة في أوروبا وأمريكا, حيث تقيم فيها الجاليات المسلمة المهاجرة من شبه القارة الهندية باكستان والهند وبنجلاديش, ومن البلاد العربية.

فكان سماحته فى رحلاته خير نديم لرفقائه, وأفضل خطيب لمستمعيه, مطّلع على أحوال من يخاطبهم، فتكون كلمته أنسب مقال للحال والمخاطبين، فإذا سافر إلى باكستان وكان كثير السفر إليها يحسبه أهله كأنه إمامهم، ومنهم ومرشدهم وخطيبهم وعظيمهم الروحي, وإذا سافر إلى الهند كان حديثه يناسب حالهم وما يعالج قضاياهم, سافر الشيخ محمد السبيل إلى كشمير، فلم ينس قضيتهم ونصرتهم بالدعوة والدعاء إلى آخر خطابه وخطبته, وإذا سافر إلى بلاد الغرب لزيارة الأقليات المهاجرات من إخوانه المسلمين, فكان خير ناصح وواعظ لهم، يحثهم على الثبات بدينهم والتمسك بتقاليدهم.

وكان يشارك فى المؤتمرات والندوات العالمية, وشارك عدة مرات معنا فى مؤتمراتنا حول عقيدة ختم النبوة، والرد على مدّعى النبوة كذبًا, وألف فى موضوع ختم النبوة تصنيفًا لطيفًا, وكان كثير الاهتمام بهذه القضية.

وكان سماحة الشيخ السبيل رحمه اللّه تعالى يقدر جهود علماء الإسلام، الذين خدموا عقيدة ختم النبوة, وكان الشيخ منظور رحمه الله من كبار هؤلاء العلماء، ومن المقربين لدي سماحة الشيخ السبيل, وفي إحدى زياراتنا لسماحته في مكتبه هو سأل الشيخ منظور، وكان معنا فضيلة الشيخ عبد الحفيظ ما هو أحسن كتاب من تأليفات العلامة منظور أحمد الذي يقوم الشيخ سعيد عنايت الله بتعريبه ليستفيد منه العرب؟ فأشار الشيخ منظور إلى كتابه الأصول الذهبية في الرد على القاديانية, فأمرني الشيخ السبيل بتعريبه، قائلًا عرّب أنت، وإني سأقوم بطباعته على نفقتي الخاصة, وحينما أكملت التعريب سرّ بذلك كثيرًا، وكان هو أول من رصّعه بتقديمه القيم, وهو دون شك مفخرة لي, وقد طبع الكتاب باللغة العربية عدة مرات باسم «الأصول الذهبية في الرد على القاديانية»، ولا شك أنه مسجل في ميزان حسناته إن شاء الله تعالى!

كان سماحة الشيخ محمد السبيل شخصية فذة, فكان رجلًا يلقي ويتلقى, و يعطي ما عنده من الخيرات, ويتلقى من تعرفه على أحوال الناس فكرة معالجتها وهمّ حلولها, وكان يكرم ويحترم الأشخاص والجماعات والحركات التي كانت قائمة بعمل الدعوة إلى الله، فيزورهم فى مساجدهم ومراكزهم فى بلادهم, كما كان يرحب بهم فى هذا البلد الحرام، حينما يأتون إليها بكل ترحاب وسعة صدر، حتى ويضيف معظمهم فى منزله, أمّا الإدارات والمراكز والمساجد التي زارها هذا الراحل المرتحل العظيم أو كبار رجال العلم والدين الذين زاروه في مكتبه في الرئاسة أو داخل الحرم المكي الشريف أو فى بيته, فهذا أمر إن لم يكن مستحيلًا فإنه لعزيز يحتاج إلى جهد كبير, وإنني أرجو من ابنه العزيز سعادة الدكتور عبد العزيز وهو كثير الصحبة معه في أسفاره، كما أرجو من سعادة الدكتور عبد المجيد وكان يلازمه أثناء إقامته وأبناءه البررة الآخرين، أن يبذلوا جهدهم لجمع أمجاده رحمه الله, ولعل هذا الإرث القيم لسماحة الوالد يثبت خير ثروة لمن وليه من شباب أئمة الحرمين الشريفين.

فنعم الرجل, ونعم الإمام, ونعم المربي, ونعم المرشد, ونعم القائد والقدوة, أنت يا سماحة الوالد محمد بن عبد اللّه السبيل, وأنت في أمان الله, فرحمك الله رحمة الأبرار, وجعل مثواك أعلى العليين, وجعل عاقبتك خيرًا من الأولى. آمين يا رب العالمين.

المصدر : جريدة الاقتصادية: 18/2/1434هـ 31/12/2012م، العدد:7021 .

اختيار الموضوع في: 
الإمام الراحل قدوة لشباب أئمة الحرمين

خير ممثل للوسطية

د." data-share-imageurl="">